عادي

تعرف إلى سيكولوجية الإنسان المقهور

21:30 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

أصبحت الكتابات حول التخلف من أوائل الخمسينيات غزيرة، نظراً لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثاً، فيما يطلق عليه اسم العالم الثالث، والمشكلات والقضايا التي طرحتها مهمات النهوض الاجتماعي فيها، اتخذت هذه الدراسات وجهات متعددة، لكنها تركزت أساساً حول الاقتصاد والصناعة والعناية بالسكان، فنشأ عن ذلك علم اقتصاد وعلم اجتماع التخلف.

لكن الإنسان المتخلف لم يُعط الاهتمام نفسه الذي وُجّه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، صحيح أن هذا الإنسان وليد البنية الاجتماعية المتخلفة، لكنه ليس مجرد أمر مادي قابل للتغيير تلقائياً.

يؤكد د. مصطفى حجازي في كتابه «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» أن التخلف يعاش على المستوى الإنساني كنمط وجود مميز، له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية، والإنسان المتخلف منذ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها، نظراً لارتباطها ببنيته النفسية، العلاقة إذن جدلية بين السبب والمسبب (البنية والنمط الإنساني الذي ينتج عنها)، مما يحتم علينا الاهتمام بهما عند بحث حالة المجتمعات المتخلفة، بغية وضع الخطط التنموية.

وقد أوقع تجاهل هذه الحقيقة دارسي التخلف وعلماء التنمية، ومن ورائهم القادة السياسيون، الذين يقررون عمليات التغيير الاجتماعي، في مآزق أدت إلى هدر الكثير من الجهد والوقت والإمكانات المادية، بشكل اتخذ طابع التبذير الذي لا يمكن للمجتمع المتخلف ذي الأعباء الثقال، أن يسمح لنفسه به، انطلق هؤلاء جميعاً في مشروعات تنموية طنانة، ذات بريق ووجاهة، قائمة على دراسات ومخططات جزئية لم تتجاوز السطح معظم الأحيان، كي تنفذ إلى دينامية البنية المتخلفة من ناحية، أو إلى التكوين النفسي والذهني للإنسان المتخلف الذي أريد تطويره من ناحية ثانية.

يقول حجازي: «وضعت خطط مستوردة عن نماذج طبقت، ونجحت في بلدان صناعية، لكن مسيرة هذه الخطط لم تخط بعيداً، فقد أخفقت التجارب المستوردة، والمشروعات الملصقة من الخارج، كما فشلت المشروعات ذات الطابع الدعائي الاستعراضي في تحريك بنية المجتمع ككل، وفي الارتقاء بإنسان ذلك المجتمع، ذلك لأن إنسان هذه المجتمعات لم ينظر إليه، باعتباره عنصراً أساسياً ومحورياً في أي خطة تنموية».

يرى المؤلف أن التنمية مهما كان ميدانها، تمس تغير الإنسان ونظرته إلى الأمور في المقام الأول، ولابد إذن من وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح، وأخذ خصائص الفئة السكانية، التي يراد لها تطوير نمط حياتها بعين الاعتبار، ولابد بالتالي من دراسة هذه الخصائص ومعرفة بنيتها وديناميتها.

وهو ما ندر الاهتمام به إلى الآن، فعلم النفس لم يحتل بعد مكانته المفروضة في هذا المضمار، ومع أنه يملك مفاتيح مهمة لمعرفة الإنسان والقوى التي تحركه داخلياً وعقلانياً، والمقاومات التي يظهرها إذا مس توازنه، وكل تنمية لابد لها إذا كانت فعالة، من المساس بهذا التوازن لإحلال آخر أكثر تطوراً ومرونة.

لابد من شمول النظرة من خلال الاهتمام بالبعد الذاتي (الإنساني) إضافة إلى البعد الموضوعي (الاجتماعي) و(الاقتصادي) ومن خلال فهم العلاقة الجدلية بينهما، إذا أردنا السير على طريق، يحالفها الحظ في إيصالنا إلى الهدف.

يقول حجازي: «من هنا تنبع أهمية محاولات دراسة نفسية الإنسان المتخلف، فظواهر حياة هذا الإنسان التي تبدو مشتتة، تذهب في كل اتجاه، وتصرفاته ونظرته ومواقفه واستجاباته يبدو عليها التفكك، وهي في الحقيقة كل متماسك له بنيته الخاصة وديناميته المتطورة، فحياة الإنسان المتخلف تنتظم في وحدة قابلة للفهم جدلياً، وحدة لها تاريخها ومسيرتها رغم ما يبدو عليها من سكون ظاهري، يسبغه تحكم التقليد، وما يفرضه من جمود في المجتمع».

يؤكد حجازي أن وجود الإنسان المتخلف في وضعية مأزقية، يحاول في سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهتها، ومحاولة السيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه، هذه الوضعية المأزقية هي أساس وضعية القهر، الذي تفرضه عليه الطبيعة، التي تفلت من سيطرته، وتمارس عليه اعتباطها، والممسكون بزمام السلطة في مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ، ولذلك فإن سيكولوجية التخلف من الناحية الإنسانية تبدو أساساً على أنها سيكولوجية الإنسان المقهور.

تنبث علاقات القهر والتسلط من ناحية، وردّ الفعل عليها من رضوخ أو تمرد من ناحية ثانية، في كل ثنايا وجود الإنسان المتخلف، تكوين الإنسان المتخلف النفسي، وتركيبه الذهني، وحياته اللاواعية محكومة كلها بالاعتباط والقهر، وما يولدانه من قلق جذري، وانعدام الشعور بالأمن والإحساس بالعجز أمام المصير، ولا يقف المقهور مكتوف اليدين إزاء هذه الوضعية عسيرة الاحتمال، نظراً لكونها تزلزل التوازن الوجودي، بل يحاول أن يجابهها بأساليب دفاعية جديدة متعارضة جدلياً ومتكاملة في تعارضها، تطغى في كل مرحلة من تاريخه نماذج سائدة منها، تتغير تبعاً لتغير ظروفه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckjkbnx

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"