ثقافة التبرع بالأعضاء في الإمارات

00:16 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

محمد خليفة

عندما تعلو النزعة الإنسانية في مجتمع معين، على سواها من النزعات، خاصة المادية منها، فهذا يُعّد دليلاً على وصول هذا الشعب إلى مرحلة الاستقرار العقلي والعاطفي، فالمجتمعات التي تقودها غريزة القطيع، هي أبعد ما تكون عن النزعة الإنسانية، أما المجتمعات التي تتعزز فيها النزعة الجماعية؛ فإنها تصبح أكثر عقلانية، وبالتالي أكثر إنسانية.

ومن يتأمل ملامح المجتمع الإماراتي، خاصة في العقود الأخيرة، يلاحظ أن المجتمع الإماراتي بدأت تتعزز فيه النزعة الجماعية بشكل كبير، بسبب ارتفاع نسبة المتعلمين، وشعور المواطن بالرضا الكامل عن حياته؛ بسبب ما تقدمه الدولة لمواطنيها من عطايا تجعلهم يعيشون سعادة لا نظير لها عند كثير من شعوب العالم، حيث تيسرت سبل الحياة، وانتشرت الرفاهية، وارتفعت الدخول، وانخفض معدل البطالة، وتوافرت المقومات الأساسية للحياة لكافة مواطني الدولة.

وتُعد زيادة عدد المتبرعين بالأعضاء بعد الموت، من أبرز الأدلة على ارتفاع مستوى النزعة الجماعية في المجتمع. وخلال افتتاح المؤتمر الدولي لمبادرات التبرع وزراعة الأعضاء يوم الاثنين 8-11-2022 في أبوظبي، وبمشاركة 95 دولة، كشف رئيس اللجنة الوطنية للتبرع وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية عن أن دولة الإمارات لديها 117 متبرعاً بأعضائهم بعد الوفاة. وهذا يدل على ارتفاع ثقافة التبرع بالأعضاء بعد الموت في المجتمع الإماراتي؛ إذ ارتفعت النسبة، في عام واحد، إلى ثلاثة أضعاف، وتُعد هذه الثقافة غريبة عن مجتمعات تنشط فيها، شبكات تجارة الأعضاء بشكل سري؛ مستغلة حاجة الفقراء والمحتاجين للمال، فتشتري منهم أعضاءهم النبيلة بثمن زهيد وتبيعها لمحتاجيها من المرضى بثمن غالٍ. ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر، في بعض هذه البلدان، إلى تشكيل عصابات إجرامية لهذه التجارة، وكان أبرز ضحايا هذه العصابات الإجرامية الأطفال والنساء.

وتُعتبر الكلى من أبرز الأعضاء التي تجد رواجاً في هذا السوق، فهي من الأعضاء التي يصيبها الخلل سريعاً؛ فتفشل في تأدية مهامها في إتمام وظائفها بشكل سليم، وتؤدي بصاحبها إلى الدخول في نفق الموت، ما يدفع به إلى سلوك سبيل غسل الكلى، وبالتالي لا محيص من وجود كلية بديلة، وإعادة الحياة إلى المريض. وكم تكون سعادة المريض عارمة عندما يحظى بكلية بديلة تعيده إلى الحياة من جديد، وبالتالي فإن زرع البسمة على وجوه المرضى، خاصة غير القادرين منهم، يُعدّ من أعظم الأعمال التي يمكن أن يفعلها الإنسان الصحيح في حياته. ولهذا الهدف انتشرت جمعيات نبيلة هدفها الأسمى الحفاظ على حياة الإنسان باعتبارها حقاً مقدساً، من خلال التشجيع على التبرع بالأعضاء بعد الموت، من خلال مؤسسات رسمية، تحت سمع وبصر الدولة، يتم التبرع بمحض الإرادة، ودون مقابل، فيتقدم الشخص، رجلاً كان أو امرأة، ويسجل نفسه لدى جهة رسمية بأنه يريد أن يتبرع بكليتيه أو بكبده أو بأي عضو آخر من أعضائه بعد وفاته للمرضى الذين يريدون أعضاء نبيلة بديلة.

إن هذا التصرف يمثل قمة الرقي الإنساني والتفكير السليم. وأيضاً إذا نظرنا إلى المسألة نظرة شرعية، فإن أعظم مقاصد الشريعة هو حفظ النفس، الهدف الأسمى من التبرع بالأعضاء بعد الموت، حيث يهدف المتبرع من وراء تبرعه حفظ نفس بشرية لا يمكن الحفاظ عليها إلا من خلال التبرع بالأعضاء، دون شبهة مصلحة، أو تربح من وراء العمل، والمتبرع يأتي طائعاً مختاراً دون إجبارٍ أو إكراهٍ، لا يبتغي من وراء عمله إلا صيانة وحفظ نفس بشرية تُكتب لها حياة جديدة بهذا العضو المتبرَع به. إنها قمة الإيثار والعطاء عندما يقدمه حيٌّ متبرعاً بعضوٍ من أعضائه لشخص آخر، إنه عطاءٌ وبذل للحفاظ على النفس الإنسانية التي يُعد الحفاظ عليها أسمى وأنبل المقاصد الإنسانية.

إن تقدم الطب في هذا العصر، ووصوله إلى منحنيات لا تنفع معها الأدوية والعقاقير، ولا ينفع معها التدخل الجراحي، بل لا بد من وجود عضو آخر نبيل لتعود الحياة إلى المريض، وطالما أن التقنيات الطبية متوفرة فما ينبغي فعله هو التشجيع على زيادة التبرع بالأعضاء، لأنه من أعظم الأعمال التي تدل بلا أدنى شك على ذلك الحب الخالص في قلب المتبرع الذي غادر الحياة وهو مفعم بإنسانيته.

medkhalifaaa@gmail.com

 

عن الكاتب:
إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.