بطرس غالي والوحدة الوطنية

00:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

لم أعرف في حياتي شخصاً كانت مسألة الاختلاف الديني لا تمثل له دافعاً في أي اتجاه مثل بطرس غالي الذي آمن منذ مطلع شبابه بنوع من الحياد الديني الذي جعله يحترم مقدسات الآخرين ولا يبحث كثيراً فيها ولا يفتش عنها، وعندما كنت طالباً في السنة الثالثة في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة كان يطلب من كل واحد منا أن يختار موضوعاً يتصل بالتنظيم الدولي المعاصر، وقد تقدمت إليه يومها طالباً أن يكون البحث الذي أطرحه عن التنظيم الدولي الإسلامي منطلقاً من كتاب عبد الرحمن الكواكبي (أم القرى) ومستمداً في الوقت ذاته ما ذكره جمال عبد الناصر في كتابه (فلسفة الثورة) حول موسم الحج باعتباره مؤتمراً إسلامياً سنوياً.

وقد استقبل الدكتور بطرس اقتراحي بترحاب شديد وحماس زائد رغم أنني كنت أتوجس خيفة في البداية من أنني أطرح على أستاذ كبير موضوعاً لا يخلو من التأثير الديني ويطرق الأبواب أمام بعض المظاهر المبكرة للإسلام السياسي. وبالفعل أتممت البحث وقرأته على مسمع من بعض أساتذتي وزملائي، فلقي الأمر برمته استحساناً وتقديراً، وظل بطرس غالي يتذكر ذلك كلما رآني في المناسبات المختلفة.

وفي عام 1981 كنت مستشاراً لسفارة مصر في نيودلهي بالهند وعدت - أنا وأسرتي – في إجازة نصف المدة فاقترح الدكتور بطرس عليّ أن أتولى تحرير كتاب يصدر عن الوحدة الوطنية المصرية خصوصاً أن علاقة الكنيسة بالدولة كانت تتجه إلى الدخول في منزلق لا مبرر له، حيث لعب غياب الكيمياء الشخصية بين الرئيس السادات والبابا شنودة دوراً سلبياً في إحداث انقسام بعد أحداث الخانكة والزاوية الحمراء، واقترح الدكتور بطرس غالي - رحمه الله – أن يكون الكتاب من ثلاثة فصول كبيرة يكتبها ثلاثة ممن يعرفهم هم المستشار طارق البشري والمستشار وليم سليمان قلادة وكاتب هذه السطور على أن يقوم غالي بكتابة المقدمة.

وبالفعل كان له ما أراد وصدر الكتاب عن مطابع الأهرام للنشر تحت عنوان (الوطن الواحد والشعب الواحد)، وأنا شديد الاعتزاز بأنني شاركت في هذه السن المبكرة في الكتابة مع أستاذين فاضلين وبمقدمة من أستاذنا جميعاً د.بطرس بطرس غالي في موضوع محوري كان هو موضوع الساعة في ذلك الوقت. وقد لاحظت دائماً أن بطرس غالي كان من رجال الوطن قبل أن يكون من أتباع الكنيسة وظل دائماً يوقر رجال الدين عن بعد.

ولقد سمعت البابا شنودة ذات مرة يعاتبه مازحاً بقوله إنه لم يره في الكنيسة منذ سنوات. وبالمناسبة فلا اعتراض لنا على أن يكون المسلم أو المسيحي متديناً ولكن الاعتراض يبدأ عندما تتلون حياته ونظرته للبشر والأشياء من خلال نظرة دينية بحتة تفكر بمنطق الحلال والحرام وحده دون منطق القانوني وغير القانوني كما يجب أن يكون الأمر. لقد كان بطرس غالي ابناً باراً للوطن المصري يتصرف بحياد وعدالة وتوازن بين كل أبنائه بلا تفرقة أو تمييز أو تهميش، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

*أولاً: اقترن الدكتور بطرس غالي بسيدة من أصل يهودي تنتمي لعائلة مصرية إيطالية من بيت نادلر الذي يقترن اسمه بصناعة الحلويات، وقد تحولت هذه السيدة الفاضلة بعد ذلك إلى المسيحية عند اقترانها بزوجها الراحل، وهي سيدة مصرية حتى النخاع فضلت البقاء في مصر حتى بعد رحيله وآثرت ذلك على حياة أكثر دعة ورفاهية في العاصمة الفرنسية.

*ثانياً: إن عائلة غالي تضم نماذج وطنية مشهوداً لها ونحن نتذكر الآن اسم واصف بطرس غالي الذي أعلن بعد وفاة والده أنه يحل قاتليه من دمائه ويؤمن بالوطن قبل الأفراد حتى اختاره الوفديون وزيراً للخارجية احتراماً له وتقديرًا لعائلته.

*ثالثاً: لقد كتب بطرس غالي في مقدمة كتابه المشترك مع الأستاذ يوسف شلاله أن لديه نقطة ضعف تجاه مسألة السودان وعلاقته بمصر نظراً لارتباطها بتاريخه العائلي واسم جده الراحل.

سوف نتذكر د.بطرس غالي دائماً باعتباره مصرياً رفيع القدر، عالي المكانة شق طريقه بنزاهة وشرف حتى تبوأ منصب أمين عام الأمم المتحدة.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4p59zcdj

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"