النخب والدور التاريخي

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

التطور أو نقيضه الانحطاط في التاريخ هما، بشكل من الأشكال، نتيجة صراع نخب. قد يبدو هذا الاستنتاج مبالغاً فيه، لجهة إغفال منطق التناقض في الصراعات الاجتماعية الاقتصادية، أو لجهة إغفال دور الجمهور العام، أو الشعب، أو العامة من الناس، لكن أياً يكن منطق الصراعات في التاريخ، فإن النخب في قلب هذا الصراع، وليست غريبة عنه، أو فئة متعالية كلياً عن الواقع، وإنما هي إحدى نتائج هذا الصراع، الذي يفضي إلى بناء نخبه، التي تعبّر عنه، أو بشكل أدق تعبر عن اتجاهات الصراع في الواقع الاجتماعي التاريخي.

عندما ينتهي عصر ما، دولة تختفي، وتتقسّم، أو تسقط إمبراطورية، أو تصعد أخرى، إلى جانب نخب تتراجع أمام نخب أخرى، أو نخب جديدة تنتصر على النخب القديمة، وتاريخ العالم، أي تاريخ الصراعات في العالم هو تاريخ صراع بين نخب، لكل منها تموضعها في الواقع الذي تنتمي إليه، ولها قيم خاصة، ويصح من هذا المنطق الذي يولي النخب أهمية استثنائية في صناعة التاريخ، أن يكون تحليل الصراعات قائماً على تحليل مستويات التفاوت بين النخب، الفروق فيما بينها، مشكلاتها، أيديولوجيتها، مستوى تعبيرها عن فئات قليلة أو واسعة من مجتمعها، مدى إدراكها للتحولات من حولها، أو قصر نظرها في رؤية تلك التحولات.

مفهوم النخبة هو مفهوم حديث نسبياً، بدأ استخدامه في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأتى استخدامه في سياق دراسة علم الاجتماع لمسائل التفاضل الاجتماعي، ولم يظهر المفهوم متبلوراً بشكل فكري، وفي سياق نظري متكامل، إلا مع كتاب «ازدهار وانحدار النخبة»، الصادر في عام 1920، للاقتصادي الإيطالي الشهير فلفريدو باريتو (1848- 1923)، لكن مفهوم النخبة سيأخذ بالتبلور أكثر مع عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز ميلز، في كتابه «النخبة الحاكمة»، الصادر في عام 1956، والمصنّف بين أفضل مئة كتاب في مجال العلوم السياسية، وأهمية إنجاز ميلز الكبير في أطروحته حول النخبة أنه يقوم بالتمييز بين النخبة الحاكمة/السياسية وبين النخب الأخرى، ويمنح هذه النخبة دوراً مهماً واستثنائياً في صناعة اتجاهات التاريخ.

قد يكون من الصعب عملياً وضع خطوط فاصلة وواضحة بين النخبة الحاكمة والنخب الأخرى، لكن تقسيم النخب في دوائر مستقلة من الناحية النظرية أمر أساسي لفهم التباينات في خصوصية كل منها، في آليات تكوّنها، ومجال عملها، أو لجهة فهم التناقضات المصلحية فيما بينها، أو إمكانيات تكامل عملها في سياق ما، لكن هناك أمر لا يقل أهمية في مجال رسم خطوط التباين النظرية هو مجال القيم، فالنخبة الحاكمة، أو النخبة السياسية، وفي إطار شرط إطلاق التسمية عليها، أو في إطار مشروعيتها الواقعية، تكون موجودة، بدرجة كبيرة من خلال القيم التي تتبناها وتسوّق لها وتسعى إلى تحقيقها.

ما نطلق عليه قيم النخبة هو أيضاً دورها التاريخي المفترض، في لحظة زمنية ومكانية محددة، ضيقة أو واسعة، أي داخل حدودها القومية أو خارجها؛ إذ إن الممارسة السياسية، أو ممارسة الحكم، في إطار دولة ما، ليست معزولة عن محيطها الجيوسياسي، أو نطاق النظام الدولي الذي تعيش فيه، والذي يحدد بدوره إطاراً لممارسة القيم، وهذا الدور التاريخي يعكس وعيها نخبةً للواقع، ومشكلاته، وكيفية العمل لحل الأزمات، أي مستوى عقلانيتها، أو مدى فواتها التاريخي، وانخفاض مستوى العقلانية في وعيها.

ضعف النخب أو حتى انحطاطها له أسباب عديدة، من بينها ضيق المساحة أو دائرة تشكّل النخبة نفسها، أي انعزالها عن شروط النمو؛ إذ إنه لا يمكن أن نتصور تطوراً تقدمياً لنخبة سياسية أو حاكمة اليوم، من دون أن تكون، على سبيل المثال لا الحصر، معزولة عن تطور وتقدم قطاعات البحث العلمي والفكري والتكنولوجي، فهذه القطاعات هي التي توسّع وتغذي النخبة، شرط وجود مستوى مرموق من حريات البحث الأكاديمي، ودعم كبير يمنح لهذه القطاعات.

تراجع مكانة الدول، بما فيها المكانة الإقليمية (أي المركز والأطراف)، والانزياح من المركز إلى موقع طرفي، نتيجة مباشرة لواقع النخبة الحاكمة، وتراجع منظومتها القيمية، وانغلاقها على نفسها، وفقدانها لدور تاريخي، وهو ما يمكن أن نسميه مأزق النخبة، الذي يتحوّل بالضرورة إلى مأزق عام لمجتمعاتها، التي قد تدخل في مرحلة انحطاط طويلة، أو حتى في صراعات داخلية، كما في الحروب الأهلية، أو تراجع الواقع الاقتصادي المعيشي، والدخول في دائرة الفقر والإفقار المزمن، أي باختصار، حينها لا تكون النخبة قد فقدت دورها التاريخي فقط؛ بل أصبحت أيضاً معيقة لدورة التاريخ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ybkntupu

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"