رواد المهارة

21:17 مساء
قراءة 3 دقائق

جاسم محمد البلوشي

لعل إحدى السمات الاقتصادية التنموية الأساسية لهذه المرحلة هي الحديث عن المهارات وأهميتها في تشكيل الاقتصاد الحديث واقتصاد المستقبل في آن، وأصبحت الشركات العالمية الكبرى تقدم على أنها نموذج لتقدم المهارة والموهبة على الشهادات والموارد الطبيعية، وكانت الإدارة الأمريكية أعلنت سابقاً اعتماد المهارات بديلاً عن الشهادات، حتى انطلق خبراء الموارد البشرية في حملات مكثفة لإثبات أهمية المهارات في تشكيل الاقتصادات والمجتمعات، وكأن المهارة اكتشاف جديد بالمطلق ولم تكن معروفة من قبل.

وحتى لا يفهم من كلامي ما لا أريد قوله ولا أنا مقتنع به، وحتى لا يؤخذ على أنه تحريض ضد العلم، يجب أن أوضح هنا أنني من الداعمين المخلصين للعلوم والتعليم، العلم هو الإرث البشري الأكثر قيمة الذي تتناقله الأمم جيلاً بعد جيل، وهو خلاصة التجربة الإنسانية في تفاعلها مع الظواهر والتحديات والطموحات، ولكنني مؤمن بأن العلم بلا مهارة بمثابة نبع كامن في باطن الأرض لا يجد سبيله نحو الحياة والمخلوقات لينفعها، أو بمثابة معلومة في رأس شخص ما لا يعرف كيف يحولها لمشروع أو برنامج أو حتى ممارسة، وهذا يعني أن المهارة هي جسر العلم نحو الواقع، وهي اليد التي تحول الفكرة إلى عمل نافع مستدام، وهي السلاح الذي تحصنت به المجتمعات منذ القدم فابتكرت أدوات عيشها وشقت سبيل تطورها.

لقد شكلت المهارات جوهر الحضارات القديمة، بواسطتها بنت الشعوب أهم وأجمل المعالم، وتمكنت من توفير مقومات الحياة بأيدي أناس قد لا يستطيعون الكتابة، بالمهارة شيدت عجائب الدنيا السبع وازدهرت الفنون والإبداعات والحرف اليدوية، بل بالمهارة الفطرية في استشراف احتياجات المستقبل ابتكر الإنسان أنظمة التعليم والمدارس والجامعات، وسبق ذلك ابتكاره للورق والحبر والكتابة والتوثيق، لهذا أجد من الغرابة أن يتم تناول المهارات حديثاً وكأنها نقلة للأمام وليس عودة لأصل الأشياء وطبيعتها خاصةً أنني أنتمي إلى جيل شهد ما يمكن للمهارات أن تفعله في وقت كانت مصادر التعليم فيه قليلة ومقتصرة على نخبة قليلة فقط.

تعلم والدي مهنة النجارة في المدرسة الصناعية في الشارقة في الستينات من القرن الماضي، ومن ثم التحق بالسلك العسكري وتقاعد وهو مهندس ميداني. أي أنه تدرج بموهبة النجارة بالخبرة والاحتكاك ليكون مهندساً. والد صديقي امتهن التجارة من صغره فقد كان مندوباً في محل والده (جدّ صديقي) ومحاسباً (كراني) يحاسب الدائنين. اكتسب المهارة وراكمها حتى بات يمتلك اليوم سلسلة من المحلات التجارية. وعمى تعلم العمل على «مورس كود» من الجنود الإنجليز وأصبح قائداً لسلاح الإشارة واليوم هو عضو في جمعية الإمارات لهواة اللاسلكي.

لنترك الماضي قليلاً ونتكلم عن الحاضر، لنرى وضع المتميزين والناجحين من المؤثرين الإعلاميين الذين يتابعهم الآلاف والملايين من مختلف مستويات الثقافة والتعليم، هل تساءلنا لماذا نتابعهم؟ ولماذا نتابع مؤثرين بعينهم دون غيرهم؟ لا شك أن السبب المحتوى الذي هو المنتج الذي يقدمونه لمتابعيهم، ولكن هناك أيضاً عامل آخر حاسم وهو مهارة التواصل. فبالرغم من تدني مستوى المحتوى من قبل البعض إلا أن تميزهم في التواصل والإبداع أي امتلاك مهارة الخطاب والكلام وتقديم الأفكار يجعلهم في قائمة المتابعين اليومين، بل وفي قائمة الشركات الكبيرة التي تبحث عن منصات المؤثرين للترويج لمنتجاتها.

إن كل الدراسات حول اقتصاد المستقبل تؤكد اختفاء نسبة كبيرة من الوظائف الحالية في العقد القادم لصالح الروبوتات والأنظمة الرقمية، فالتطورات التكنولوجية مستمرة وتلقي بظلالها على شكل الاقتصاد المستقبلي وكذلك سوق العمل، وما قد تجلبه الاختراعات والتطورات من قدرات اصطناعية قد يكون مفاجئاً بالنسبة لنا وللجميع، في المقابل تطالب أسواق العمل بتطوير المهارات البشرية والقدرات الإبداعية الشخصية مثل التواصل والتفاوض والتفكير النقدي والتحليلي كونها مهارات تعتمد على الحدس والتقييم البشري ويصعب بل يستحيل أحياناً توفيرها بالتكنولوجيا.

إن دولة الإمارات خير نموذج على ما يمكن أن يتحقق بالمهارة، فمعظم قادتنا تقدموا في مناصبهم وتدرجوا في أدوارهم بالمهارة وتسلحوا بالشهادات، لنتذكر أيضاً أباءنا وأجدادنا فهم تجار بالمهارة وليس بالشهادة، وهم اجتماعيون وحرفيون ومهنيون بالمهارة وليس بالشهادة، وجاءت الشهادة بعد ذلك لتعزز دور الموهبة والمهارة، وتؤكد أن الدراسة هي تنمية للموهبة والمهارة وصقل للمعارف وتوسيع للمدارك، وهي في الوقت ذاته مصدر للرضا وليست سبباً للتذمر.

ستنقلب الآية إذا امتلكنا الشهادة وما زلنا نبحث عن المهارة أو الموهبة، بل سنخسر الكثير من المكتسبات إذا كانت الشهادة رغم أهميتها هي المقياس الوحيد لتوظيف الكفاءات لشغل الشواغر في المراكز المهمة، وهذا يجعلنا أولى من غيرنا في تبني هذا السبق بشكل رسمي واعتماد المهارة بالتساوي مع الشهادة لنكون دوماً كما كنا وكما نحن عليه الآن، في المقدمة، سباقون نحو كل ما هو نافع ومفيد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2pr6zate

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"