عادي

بين الشاعر والفيلسوف

22:59 مساء
قراءة 6 دقائق

يوسف أبولوز

حين تكتب عن الحب، أو تتحدث عنه، تجد نفسك وقد وقفت حائراً وربما متوتراً في ما يشبه مفترق الطرق الصعب، وربما وجدت نفسك في متاهة.. أولاً، هل تكتب عن الحب بوصفه ظاهرة عاطفية، وجدانية، قلبية، أم بوصفه ظاهرة فلسفية؟، ثم تجد نفسك أيضاً أمام سؤال آخر.. هل تكتب عن الحب أم عن العشق أم عن الوله أم عن الغرام، أم عن الشغف، أم عن الكلف، أم عن النجوى؟.. وإلى آخره من درجات وأشكال الحب. وهي في كل الأحوال متاهة جميلة، وحتى الضياع في هذه المتاهة الحمّية أجمل دائماً من أي ضياع آخر.

على أي حال، وبعيداً عن المتاهة وعن الضياع، سأكتب هنا عن الحب في حدود قراءاتي، تلك القراءات العادية، والانتقائية، والتي جمعت بالمصادفة بين النظر إلى الحب من زاوية فلسفية، وبين النظر إلى الحب من زاوية شعرية، ولعلّ الشاعر هو الأقدر دائماً على الخروج من المتاهة حين تطلب منه أن يحدّثك عن الحب بخلاف الفيلسوف الذي يذهب بالحب إلى مقاربات تخيف الشاعر أحياناً، فالفيلسوف، معنيّ مثلاً بالعلاقة بين الحب والجنون، بين الحب والموت، الحب والسلطة، وإلى آخره من ثنائيات مركزها الحب، وهي ثنائيات فلسفية تشكّل انشغالاً مركزياً للشاعر.. الذي يفلسف الحب بطريقته الخاصّة، وأحياناً، يستعين الفيلسوف بتلك الطريقة الشعرية.

ولكن، لن نعوّل كثيراً، كما يبدو، على الفلاسفة أو على الفلسفة في قراءة الحب أو تفكيكه أو تحليله. هذا «جان لوك ماريون» 77 عاماً، مؤرّخ الفلسفة الحديثة في السوربون يقول في كتابه «ظاهرة الحب.. ستة تأمّلات - ترجمة: يوسف تيبس»: «.. لم تعد الفلسفة اليوم تقول شيئاً عن الحب أو تقول القليل عنه»، ويرى ماريون أن صمت الفلسفة عن الحب أفضل لها ما دامت، أي الفلسفة، تخاطر بالحديث عن الحب أو تسيء إليه أو تخونه، أكثر من ذلك يشك ماريون بأن الفلاسفة يشعرون بالحب، «.. إذا تصوّرنا بالأحرى أنهم يخشون الحديث عنه بواسطة العقل لأنهم أعلم حقاً من غيرهم بأننا لم نعد نملك الكلمات لقوله أو المفاهيم للتفكير فيه أو القوى للاحتفال به.. أي بالحب»، ويضيف ماريون، «الفلاسفة تخلّوا عن الحب، وجرّدوه من المفهوم، فألقوا به أخيراً في هوامشه المظلمة والمضطربة».

تأملات

ومع أن ماريون يجرّد الفلاسفة من كل أردية الحب، إلاّ أن تأمّلاته الفلسفية برمّتها في هذا الكتاب تقوم على ظاهرة الحب، والأخطر من ذلك، أن فلسفة الحب عند موران تقوم أو يقوم بعضها على مفهوم يسمّيه (العطية)، أي (منح الغير لَحْمي) حوّاء مخلوقة من لحم وعظم آدم. أي لحمها أصبح لحمي. لا بل يحوّل ماريون فكرة أو مفهوم اللحم إلى ظاهرة، بل، ظاهرة فلسفية معقّدة في رأيي يتداخل فيها الحسّي، بالمادي، وغير ذلك من مصطلحات، أراها أنا الآن - ثقيلة على القارئ، وعلى الكاتب معاً، ومع ذلك، مرة ثانية، يبدو أن الفلسفة، فعلاً، لا تقوى على حمل الحب. إنه أثقل منها، وربما أكثر تعقيداً، والغريب مثلاً هنا، أن فيلسوفاً في ثقل إميل سيوران 1911، 1995 في شذراته الشهيرة «مثالب الولادة»، و«اعترافات ولعنات» لم يتحدث ولا في شذرة واحدة عن الحب.

في الكتابين اللذين يقعان معاً في أكثر من 400 صفحة تحدّث سيوران عن الحزن، التفاهة، الاكتئاب، التعصّب، الدجل، الصمت، اللّامعرفة، العبودية، الموسيقى، وغيرها الكثير من المفاهيم والظواهر والحالات، ولكنه لم يقترب ولا مرة واحدة من الحب. لم يعرّف الحب، ولم يتأمله، ولم يفلسفه، كأنه يريد القول، مثل ماريون، إن الفلسفة اليوم، لم تعد تقول شيئاً عن الحب.

طبعاً تحتمل فكرة أن الفلسفة لم تعد تقول شيئاً عن الحب الكثير من النقاش.. فثمة من فلسف الحب، وثمة من كان الحب موضوعه الفكري والفلسفي والوجودي، ولكن كل هذه السقوف أدنى وأقل حماية من الحب ذاته.

نموذجان

عند هذه النقطة أنتقل إلى ما يمكن أن أسميه «العرب والفلسفة»، فإذا كان فلاسفة أوروبيون أو فرنسيون معاصرون يفترض بهم أنهم معنيون جذرياً بظاهرة الحب هم ليسوا كذلك، فالحب وراء ظهورهم، فما بالك بنا نحن العرب؟، وخصوصاً العرب المعاصرين، ومن رموزنا الشعرية المعاصرة مثلاً نزار قباني الذي نظلمه ونجهله تماماً، إذا قلنا عنه إنه شاعر حب، فالرجل مسخ الحب وحوّله إلى صور بشعة.

لا بل، إن شاعراً رمزاً يمثل سلطة أدبية تاريخية في الثقافة العربية هو المتنبي لم يكن بالمطلق شاعر حب أو شاعر قضية حب أو شاعر قصة حب. كان المتنبي شاعراً انتهازياً، نفعياً، يبحث عن إمارة يصبح حاكماً لها، ولو تحقق له هذا، لكان ترك الشعر، والمتنبي أيضاً لم يكتب قصيدة واحدة لها لوعة الحب بمعناها الذي نعرفه نحن الذين نفهم الحب على طريقتنا الشعبية الشعرية. والمتنبي شاعر جبان فوق كل ذلك، والدليل قصة خادمه الذي نهره حين حاول الهرب في مواجهته مع قاتله، والجبن يتناقض تماماً مع الشجاعة التي يبثها الحب في قلب الإنسان.

الحب ليس قضية فلسفية، ولا فكرية، ولا ظاهراتية عند العرب، وحين يتحدث حتى بعض المثقفين عن الحب يربطه إمّا بالجنون، وإمّا بثقافة العيب، وإمّا بالثقافة البرجوازية، ودائماً هناك مصدّات للحب في الذاكرة العربية، المصدّ الأخلاقي، والمصدّ المادي «الفقر»، والمصد الديني، وأحياناً المصدّ الأيديولوجي.

لقد أتيت على مثالين عربيين بوصفهما نفياً للواعج وألم وعذاب الحب. العذاب الجسدي، والعذاب الوجودي، نزار قباني، والمتنبي، غير أن الصورة النقيضة كلياً لهذين المثالين هي صورة موجودة دائماً عند شعراء الجاهلية على سبيل المثال: إن حب شاعر مثل ذي الرّمة لا يمكن أن تشوبه شائبة السلعة والرخص والحسّ كما هو الحال عند نزار قباني، وإن حب شاعر مثل جميل بثينة لا يمكن مطلقاً أن يقارن بغرور المتنبي وقبضه على قلبه كما يقبض على كيس من الدراهم.

الحب مدخل إلى الروح عند جميل بثينة، يقول:

أظلُّ نهاري مستهاماً، ويلتقي

مع الليل روحي في المنام روحُها

فهل لِيَ في كتمانِ حبّيَ راحةٌ

وهل تَنفَعَنّي بوحة لو أبوحها؟

أما الحب عند ذي الرّمة فهو في مكان النفس أو مكان هوى النفس:

إذا هَبّت الأرواح من نحو جانبٍ

به أهلُ مَيّ، هاج شوقي هبوبها

هَوَىً تذرفُ العينان منه وإنما

هوى كل نفسٍ حيث كان حَبيبها

بطولة

يقول أدونيس في الكتاب الأول من ديوان الشعر العربي «طبعة 1964»: «.. بالفروسية يرفع الشاعر الجاهلي العالم إلى مستوى الكل أو لا شيء - الانتصار أو الموت، وبالحب يرفعه إلى مستوى الفرح الكياني الكلّي الأسمى».

إن الحب لا يرتبط بالفروسية فقط، بل بالبطولة، الشجاعة، النبل، ولعلّ فكرة «البطولة» هي الأكثر اقتراناً، في رأيي الشخصي بالحب.

لنقل هنا إن العاشق، في درجة من درجات الحب هو بطل على نحو ما ليس بالضرورة أن يكون تراجيدياً أو «دموياً» حين يختطف حبيبته مثلاً ويهرب بها على حصان، بل البطولة هنا هي المرادف لِ «الأسطورة».. لِ «الأعجوبة» التي لا يصنعها إلا الحب.

في «الكوميديا الإلهية» لِ «دانتي»، وفي النشيد السابع عشر، وكما جاء في هذا النشيد، يتطرق «فرجيل» إلى موضوع الحب «فيميز بين الحب الروحي وبين الحب الطبيعي»، وسوف تظل ثيمة الحب في كوميديا دانتي من الصفحة 469 وإلى الصفحة 486، أي تمتد ثيمة الحب على مدى نشيدين كاملين «السابع عشر»، و«الثامن عشر»، وفي النشيد الثامن عشر يتابع فرجيل حديثه عن الحب:

في داخلك، ضمن المتعة، يتشكل ميل طبيعي جديد.

وكما تتشوق النار إلى الارتفاع في الهواء

لكون الطبيعة قد جعلتها تتشكل

في عناصرها على أساس الارتفاع إلى فوق،

كذلك الحب، الذي هو حركة روحية،

يملأ النفس الأسيرة، ولا يمكن أن

يستكين إلا إذا واصلت النفس المحبوب.

أظنك الآن فهمت كيف أن

هؤلاء الذين يدَّعون أن أي حب

هو خير، غير محقين إلا قليلاً

ومع أن جوهر الحب دائماً يظهر

بأنه خير فليس كل ختم جيداً

وواضحاً، ولو صنع من أجود الشموع

في الكوميديا الإلهية «يستعين «دانتي» بِ «فرجيل» في شرح الحب، غير أن سيرفانتيس في «دون كيخوته» يستعين بخبرته. فرجيل شاعر وفيلسوف، بل يعرف حتى تلك التفاعلات الكيميائية في قلب العاشق حين يطوف به الحب، أما سرفانتيس فهو فارس، بل فارس مجنون، مملوء بشجاعة قائمة على الوهم، ومع ذلك لديه حكمة، يقول في «دون كيخوته»: «الحب لا يعتدل أبداً في أفعاله ولا في أقواله، إنه كالموت، يصيب قصور الملوك الشامخة، وسقوف الرعاة الواطئة، وحين يستولي الحب على قلب استيلاء تاماً، فإن أول شيء يفعله هو أن يطرد منه الخوف».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/56xa2mje

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"