أحمد عكاشة ونفسية الشعوب

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

لا بد من أن أعترف بداية أن بداخلي ضعفاً تجاه الصديق العزيز د. أحمد عكاشة الذي يعتبر شيخ أساتذة الطب النفسي ليس في مصر أو الوطن العربي وحدهما ولكن ربما في العالم كله، فكل الدوائر العلمية والطبية في العواصم الكبرى تعرف اسم أحمد عكاشة وتدرك قدره، وقد اعترف به الجميع رائداً في التحليل النفسي ليس للأفراد وحدهم ولكن للجماعات البشرية المختلفة على تنوع أوضاعها واختلاف ظروفها، لذلك استعان ذلك العالم الكبير بثقافته الواسعة ومعارفه المتنوعة وملاحظاته العميقة لكي يكتب في علم النفس الجماعي وليس الفردي وحده.

فهو سليل بيت عريق قدم لنا قبله آخاه العظيم ثروت عكاشة الذي يعتبر عميد المثقفين المصريين ويستحق بجدارة لقب رب السيف والقلم، فهو ضابط في القوات المسلحة المصرية وهو واحد من ثوار يوليو 1952 ولكنه اختار طريقاً مختلفاً وترك بصمات واضحة علي وجه الوطن، ويكفي أن نتذكر معركته الخالدة في إنقاذ آثار أبو سمبل عند بناء السد العالي، بل إن المصريين مدينون بصحوتهم الثقافية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي لذلك المفكر الكبير والفنان المتميز ثروت عكاشة الشقيق الأكبر لرائد الطب النفسي في بلادنا.

ولقد شرفني د. أحمد عكاشة منذ عدة أعوام بدعوتي لإلقاء المحاضرة التذكارية السنوية لمؤسسته الثقافية المرتبطة بتخصصه والتي تدور في فلك ذلك النوع من الدراسات التي ارتبط بها وعاش معها لما يقرب من سبعة عقود، وفي تلك الأمسية التي احتشد فيها عدد كبير من تلامذته ومريديه الذين يعلمون أنه سوف يستضيف إحدى الشخصيات العامة في حوار يدور حول الحاضر والمستقبل، ويومها شعرت بالاعتزاز الشديد أن أكون ضيف تلك الندوة السنوية والمتحدث فيها لأنه في العام الذي سبقه عام 2017 كان من المقرر أن ألقي تلك المحاضرة ولكن الذي حدث أنه تصادف تعييني مديراً لمكتبة الإسكندرية في ذات اليوم فتأجلت محاضرتي لعام آخر، وأتذكر أنه استعان وقتها بالموسوعي الكبير الدكتور حسام بدراوي ليملأ الفراغ ويلقى محاضرة بديلة، حتى ألقيت محاضرتي في نفس التوقيت.

إنني أكتب اليوم عن الدكتور أحمد عكاشة لكي أذكّر الجميع بنموذج فريد في حياتنا لا يمكن أن ننساه بعد ذلك الزخم الكبير من كتبه المضيئة ودراساته الجادة وأحاديثه الموضوعية، فهو واحد من حملة الشعلة ورواد التنوير في هذه المنطقة من العالم ولقد قرأت معظم كتبه – في غير الطب طبعاً- ووجدتني أمام عالم يدين بهدف واحد وهو التركيز على السلامة النفسية لإنسان العصر مقتنعاً بأهميتها في تكوين الشخصية البشرية وانعكاس ذلك على سلامة المجتمعات ونهضة الشعوب ورقي الأمم.

ولا بد أن أعترف مرة أخرى أنني ألجأ إلى الحوار معه من حين لآخر كي أتسلح بشحنة إيجابية تقاوم حالات الاكتئاب التي تراودني بين حين وآخر، فالحياة في عصرنا أصبحت شديدة الحساسية بالغة التعقيد، وأصبح الاحتكام إلى الطب النفسي واللجوء إلى خبرائه أمراً طبيعياً بما يعني أن ذلك الفرع من الطب شأن غيره من الفروع الأخرى يرتبط ارتباطاً مباشراً بالصحة العامة والاستقرار النفسي الذي يؤدي إلى تماسك الأسرة وترابط المجتمع، وما زال الرجل يواصل العطاء في مركزه الطبي للعلاج النفسي حيث يفد إليه المئات ممن يقصدونه طلباً للراحة النفسية أو خروجاً من ضائقة ذاتية، وهو يحاول دائماً، أن يعالج مرضاه بجرعات التفاؤل ولقد قال لي ذات مرة إن الجلوس في الشمس الدافئة في الشتاء وضوئها الباهر يعتبر من وجهة نظره أحد الأدوات الناجحة في العلاج، وأنه لا يتوقف عن ذلك بعدما اكتشف أن هناك آثاراً إيجابية لمثل هذه الاستخدامات الطبيعية التي قد تعالج الاكتئاب، وتفتح آفاقاً لحالة الرضا والانشراح التي يسعى ذلك العالم الجليل لتحقيقها لكل من يقصده شاكياً همومه أو متعباً من معاناة الحياة.

إنني أطالب بتكريم الدكتور أحمد عكاشة علي مستوى الوطن كله لأن اسمه سوف يتصدر القائمة الذهبية لأبناء مصر من الأبرار الذين لم يتوقفوا عن خدمة وطنهم بل والإنسانية جميعها في كل زمان ومكان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yyt7bmer

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"