عادي
أيقونة الفن الإفريقي

«درس آلــة البـانجــو».. الموسيقى ترمم القلوب الممزقة

17:14 مساء
قراءة 4 دقائق
الشارقة: علاء الدين محمود
في الأعمال الفنية للرسام الأمريكي من أصل إفريقي هنري أوسـاوا تانر، «1859-1937»، نقف على قصة معاناة وألم وحياة قاسية وتجارب مريرة نتيجة للعنصرية المتفشية في الزمن الذي عاش فيه، غير أن كل ذلك البؤس ترجمه الفنان إلى رسومات وقطع فنية غاية في الجمال والروعة وتنمّ عن حس عالٍ ومقدرة فائقة على التعبير، إلى درجة أنه قد اعتُبر أهمّ فنان أمريكي أسود في القرن التاسع عشر، كما أنه أول فنان من أصول إفريقية يحقّق شهرة عالمية.
ولد تانر في بنسلفانيا لأب كان يعمل قسّيساً بإحدى الكنائس، ودرس الرسم في أكاديمية بنسلفانيا للفنون الجميلة، وتتلمذ على يد توماس إيكنس الذي كان له أبلغ الأثر في تعليم تانر واختيار أسلوبه الفنّي. سافر تانر إلى روما ولندن، ثم حلّ أخيراً في باريس حيث درس لبعض الوقت في أكاديمية «جوليان»، وتعكس أعماله الأولى تأثير أسلوب أستاذه إيكنس الواقعي عليه، حيث إن تانر غاص في تفاصيل الواقع الاجتماعي اليومي للسود في مزارع الولايات المتحدة، وربما كان سفره إلى أوروبا، إلى جانب مواصلة الدراسة هناك، هو بمنزلة هروب من العنصرية التي واجهها في أمريكا؛ حيث استقر في باريس، وأخذ يرسم صوراً ذات مضمون ديني، وعكست أعماله المتأخرة تأثير الرسام الهولندي رمبرانت بألوانها الزاهية الدافئة والتباين المثير بين المساحات المضيئة والقاتمة، وقد زار تانر فلسطين مراراً، واستمدّ من أجوائها الروحية مواضيع للعديد من لوحاته الدينية.
في لوحة «درس في آلة البانجو»، التي رسمها تانر عام 1893، تظهر البراعة الفنية والمقدرة على التعبير عن حياة قومه السود الذين كانوا يعيشون تحت نير العسف العنصري، وأشار الكثير من النقاد إلى أن العمل تتضح فيه القوة التعبيرية والانفعال المكثف في أسمى معانيهما، لذلك ليس غريباً أن تصبح اللوحة مع مرور السنوات أيقونة للفنّ الإفريقي في العالم وصورة للعاطفة الأبوية والقيم العائلية بشكل عام، غير أن أهم ما يميز تلك القطعة الفنية فائقة الجمال، أنها أصبحت رمزاً للأمل والإلهام والصبر بالنسبة لزعماء الأفارقة الأمريكيين والفنّانين السود الشباب، ففي ذلك الوقت لم يكن هنالك الكثير من الفنانين أو المثقفين السود؛ لذلك كانت نتاجات تلك القلة، مصدر إلهام للمهمشين والفقراء الذين كانوا يقبعون في أسفل درجات السلم الاجتماعي حينها، وقد منحت هذه اللوحة جمهور الفن نظرة داخلية على الثقافة الإفرو أمريكية في الولايات المتحدة، فكان أن اعتبرت من أجمل الأعمال الفنية العالمية.

*وصف

تصور اللوحة في مشهديتها رجلاً مسناً يعلم حفيده كيفية عزف البانجو، وهي آلة موسيقية إفريقية صميمة، وفي هذا العمل يغالط تانر الصور النمطية لمثل هذا النوع من الرسومات، حيث درج الكثير من الفنانين على رسم لوحات فيها العزف على آلة البانجو في أجواء بهيجة راقصة، غير أن لوحة تانر، بدلاً عن ذلك، تصور مشهداً منزلياً هادئاً وعاطفياً، وقد تحدث تانر عن ذلك الجانب قائلاً: «كل الفنانين الذين مثلوا الحياة الزنجية لم يروا سوى الجانب الهزلي المضحك منها، وافتقروا إلى التعاطف والتقدير للقلب الكبير الدافئ الذي يسكن في داخل الإنسان».
ويظهر في العمل رجل عجوز بشعر رمادي يجلس على كرسي بيته قليل الأثاث، ويقف الصبي بالقرب منه وهو ممسك بالآلة الموسيقية، وكلاهما يراقب بينما يلعب الطفل على الأوتار بحرص بيد واحدة، فيما يمسك وتراً بيده الأخرى، وتظهر في الخلفية بعض الأواني الفخارية ورغيف الخبز على طاولة أو خزانة جانبية، مع بعض الصور الصغيرة على الحائط، وكرسي ثانٍ، ومعطف معلق بجانب الرفّ، ويُضاء المشهد من اتجاهين: ضوء أزرق بارد من نافذة إلى اليسار، وضوء أصفر أكثر دفئاً من مدفأة إلى اليمين، وكلاهما غير مرئي، فيما يهيمن على اللوحة الألوان الترابية والأسود والرمادي والبني والأبيض والأصفر، وعلى الرغم من أن المكان يبدو متواضعاً، لكنه ليس فقيراً، ويحتوي مشهد اللوحة بصورة عامة على عناصر من الواقعية الأمريكية والانطباعية الفرنسية.
العمل يحتشد بالدلالات والرموز؛ حيث إن الآلة الموسيقية التي يدرس عليها الصبي، قادمة من القارة الإفريقية، وهي تشير إلى ضرورة التمسك بالهوية والجذور، كما أن وجود شخص كبير في السن، وآخر يافع يشير إلى التواصل بين الأجيال ونقل المعارف والخصوصية الثقافية من جيل إلى آخر، وكذلك بعض الأدوات التي تظهر في مشهد اللوحة تؤكد على الفخر بالانتماء الإفريقي والانفتاح على الثقافة الأمريكية الجديدة في ذات الوقت.

*تأثير أدبي

تأثرت اللوحة بعملين أدبيين؛ حيث استلهمت قصيدة للشاعر بول لرونس دونبار بعنوان «نحن نرتدي القناع»، وتعدّ من أجمل وأقوى القصائد التي تركها الشاعر الأمريكي الأسود، وفيها يصف الواقعية المرة للسود في أمريكا في وقته، وكيف كانوا يخفون أحزانهم ومعاناتهم تحت قناع مزيف؛ حيث إنهم يعيشون حياة مزدوجة، يظهرون بقناع أمام أسيادهم البيض، وبوجه عار أمام بعضهم، وتقول القصيدة:
«نحن نرتدي القناع الذي يضحك ويكذب/ وهو يخفي خدودنا ويظلل أعيننا/ ونبتسم بقلوب ممزقة وهي تدمى/ بينما تكشر شفاهنا برقة لا متناهية».
كما استلهمت اللوحة قصة قصيرة للكاتبة روث ماكنري ستيورات بعنوان «العم تيم في عيد الميلاد»، وتتحدث عن رجل مسن هو «تيم العجوز»، يهدي صبياً يدعى «تيم الصغير»، آلة البانجو الموسيقية في عيد الميلاد.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y9y8n24j

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"