بكين في مواجهة «الفوضى» الأمريكية

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

في عام 2006 بشّرت كونداليزا رايس وزيرة خارجية جورج بوش الابن، بشرق أوسط جديد، وقبل أيام بادرت الصين للمساهمة بتشكيل شرق أوسط جديد، و«جديد» الصين المأمول حالياً يختلف تماماً، بل ويناقض «جديد» أمريكا الذي عرفناه واكتوينا بنيرانه، والذي يتخذ من «الفوضى الخلاقة» وسيلة لإحداث التغيير، أدت إلى صراعات وحروب وتطرف وإرهاب وعنف، ونثرت بذور الكراهية بين الشعوب، وأشعلت نيران الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، روت الشوارع بالدماء، ودفعت الملايين للفرار، وجمعت سادة العنف من مختلف دول العالم على جغرافية الشرق الأوسط، مستهدفة زلزلة الأرض العربية، وخلخلة نظم الحكم فيها، وهو ما نجحت في تحقيقه بامتياز، آملة أن يساهم ذلك في زيادة تحكمها في المنطقة، وزيادة سيطرتها على قرارها والسطو على ثرواتها.

ولأن دوام الحال من المحال في السياسة، تم الإعلان بشكل مفاجئ في العاصمة الصينية، بكين، قبل أيام عن توقيع اتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، ويتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعاً لتفعيل ذلك، وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات. كما اتفقا على تفعيل اتفاقية 2001 للتعاون الأمني بينهما، وهو الاتفاق الذي أثلج صدور شعوب المنطقة، ولقي ترحيباً رسمياً في مختلف العواصم العربية، وعواصم العالم، التي تريد لهذه المنطقة استقراراً.

وبرعاية الصين لهذه المبادرة تكشف الدولة المصنفة ثاني قوة في العالم عن رؤيتها لما ينبغي أن يكون عليه الشرق الأوسط، فهي تريده مناقضاً تماماً لما أرادته الولايات المتحدة، وأعلنت عنه على لسان كونداليزا رايس، وبذلت الكثير من الجهد السياسي والعسكري لتحقيقه، فالصين تريده خالياً من الفوضى، ويكون التغيير فيه إلى الأفضل، وفيه تحترم الدول سيادة بعضها بعضاً، وغير مقبول فيه تدخل دول في الشؤون الداخلية لدول أخرى، ولا تدعم فيه دولة ميليشيات مسلحة لإثارة القلاقل في دولة جارة، أو غير جارة.

وفي التوقيت نفسه الذي تم الإعلان فيه عن المصالحة السعودية الإيرانية، كانت الصين تعلن عن نفسها كقوة عالمية تسعى للسلام، وترفض الهيمنة، وتقاوم صناع الأزمات، وتجند دبلوماسيتها لإخماد نيران الفتنة بين الشعوب، كما تعلن عن انتهاء زمن الاكتفاء بدور المراقب عن بعد لما يحدث في العالم، وبداية زمن الدبلوماسية الصينية الفاعلة حول العالم، ولعلها المرة الثانية التي تتحرك فيها الصين في مواجهة أزمات خارجية، وكانت المرة الأولى قبل أسابيع، عندما أعلنت عن مبادرة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، وهي المبادرة التي وأدتها أمريكا في مهدها، إلا أن ذلك لم يحبط صانع القرار الصيني، ويعيده إلى قوقعته، ليلحقها بمبادرة ثانية نجحت في اختراق أزمة ألقت بظلال قاتمة على العديد من الدول.

الصين تحركت ونجحت في تحقيق الاختراق، وبَنت على تحركات سابقة لطامحين في استقرار المنطقة، وآخرهم العراق وعمان، والتحرك الصيني لم يوصل ما انقطع بين الرياض وطهران فقط، ولكنه يحاصر الراغبين في أن تظل هذه المنطقة رهن إرادتهم، مشغولة بأزماتها عن خططها التنموية، مفتتة في قراراتها، متوترة في تصريحات دبلوماسييها، غارقة في صراعات مذهبية وطائفية مفتعلة.

الاتفاق تم توقيعه، والراعي حقق منجزه، كما أن الطرفين، السعودي والإيراني، أكدا الرغبة في احترام الجيرة والتعاون بما فيه مصالح كل منهما، ومصالح الإقليم، والعيون تتطلع اليوم إلى المستقبل، وتنتظر انعكاساً لهذا الاتفاق على لبنان واليمن وسوريا والعراق؛ والمنطقة بكاملها تنتظر توديع زمن خلخلة البناء الاجتماعي للشعوب، وتتطلع إلى صبح جديد يدرك فيه الجميع أن تحقيق طموحات دول لا ينبغي أن يكون على حساب جيرانها، وأن الكرة الأرضية تستوعبنا جميعاً، شريطة ألا يتجاوز أي منا حدوده، وأننا قادرون على الذهاب إلى المستقبل، من دون أن تصطحبنا إليه قوى الشر والطغيان العالمية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4zbnt4rk

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"