هل حان الوقت لإعادة التفكير في السياسة النقدية؟

22:23 مساء
قراءة 4 دقائق

د. علي توفيق الصادق*

تحوي مجلة «التمويل والتنمية» لشهر مارس/آذار 2023 التي يصدرها صندوق النقد الدولي على مجموعة من البحوث حول السياسة النقدية وإدارتها من قبل البنوك المركزية حول العالم. ويبدو أن تخصيص مجلة التمويل والتنمية في شهر مارس/آذار جاءت بسبب عودة التضخم بقوة في الاقتصاد العالمي في أعقاب سكون لفترة طويلة تجاوزت الأربعة عقود.

تبين أدبيات الاقتصاد أن النظرية النقدية تتكون من مدارس فكرية مختلفة بدلاً من نموذج واحد موحد. تؤكد كل مدرسة من هذه المدارس على القوى المختلفة التي تدفع التضخم وتوصي باستجابة سياسية متميزة. لقد أثارت الأوقات المختلفة تحديات مختلفة، وكل منها يتطلب نهجاً سياسياً خاصاً به.

المعروف أن أسعار الفائدة المنخفضة بقيت فترة طويلة، وكذلك التضخم المنخفض. ولكن شهدنا دخول الاقتصاد العالمي مرحلة تتميز بارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع مستويات الدين العام والخاص. الدين العام مرتفع لذلك أي زيادة في أسعار الفائدة للجم تهديدات التضخم تجعل خدمة الدين أكثر تكلفة بشكل فوري والآثار المالية العكسية كبيرة للحكومة.

وفي بحث الاقتصادي ماساكي شراكاوا، محافظ البنك المركزي الياباني السابق (2008 – 2013) بعنوان «وقت التغيير» يؤكد بأن الوقت قد حان لإعادة التفكير في أساس السياسة النقدية وإطارها.

يذكر ماساكي شراكاوا أن الملكة إليزابيث الثانية سألت في عام 2008 أساتذة في كلية لندن للاقتصاد (LSE) عن الأزمة المالية العالمية: لماذا لم يتوقعها أحد؟ إذا كان الملك تشارلز الثالث يسير على خطى والدته، فمن المؤكد أنه سيطرح سؤالاً مماثلاً اليوم، ولكن عن التضخم المرتفع. هذا السؤال أكثر إلحاحاً لسببين. أولاً، قبل ارتفاع التضخم الذي نشهده حالياً إلى مستويات لم نشهدها منذ 40 عاماً كان العديد من البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة قلقاً للغاية بشأن التضخم المنخفض. ثانياً، أكدوا بثقة أن التضخم كان مؤقتاً، وفشلوا في كبحه حتى مع ارتفاع الأسعار بسرعة. كانت الأحداث التي أطلقت، ولا سيما تعطل التجارة والإنتاج بسبب الوباء والحرب في أوكرانيا، أحداثاً على جانب العرض. تم اعتبار هذه خارج نطاق السياسة النقدية. لكن تأثير الأحداث على التضخم يختلف باختلاف الظروف المالية الموجودة مسبقاً، والتي تتشكل بدورها من خلال السياسة النقدية.

يؤكد شراكاوا أن الخوف التقليدي من الانكماش ومن أسعار الفائدة إلى أدنى مستوى ممكن بشكل جيد في خطاب ألقاه جيرمي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الامريكي)، في مؤتمر جاكسون هول في شهر أغسطس / أب 2020: تنخفض توقعات التضخم إلى ما دون هدفنا البالغ 2 في المئة، وستنخفض أسعار الفائدة جنباً إلى جنب. «في المقابل سيكون لدينا مجال أقل لخفض أسعار الفائدة لتعزيز التوظيف أثناء الانكماش الاقتصادي، مما يقلل من قدرتنا على استقرار الاقتصاد من خلال خفض أسعار الفائدة».

إن «التجربة النقدية العظيمة» لبنك اليابان في السنوات التي أعقبت عام 2013، والتي توسعت خلالها الميزانية العمومية للبنك المركزي من 30 في المئة إلى 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، تُظهر مرة أخرى على جبهة التضخم، كان التأثير متواضعاً. وعلى جبهة النمو، كان تأثيره متواضعاً أيضاً. كان هذا هو الحال ليس فقط في اليابان ولكن أيضاً في العديد من البلدان الأخرى التي تبعتها بتبني سياسة غير تقليدية بعد عام 2008.

هذا لا يعني أن السياسة النقدية غير التقليدية ليس لها أي تأثير على الإطلاق. يمكن أن تصبح قوية للغاية - حسب التوقيت. ومن الأمثلة على ذلك التوجيه المستقبلي. عندما يكون الاقتصاد ضعيفاً، لا تكون التوجيهات المستقبلية فعالة جداً؛ لأن المشاركين في السوق يتوقعون أن تظل أسعار الفائدة منخفضة على أي حال. ولكن عندما يتعرض الاقتصاد لصدمة مفاجئة للطلب أو العرض، فإن التوجيه المستقبلي باستمرار أسعار الفائدة المنخفضة يمكن أن يصبح فجأة مفرط التوسع والتضخم.

يسلط ماساكي شراكاوا الضوء على ثلاث قضايا يوصي بأخذها في الاعتبار:

أولاً، يجب أن نعيد تقييم ما إذا كان ينبغي لنا الاستمرار في التركيز على مخاطر الانكماش والحد الأدنى للصفر على أسعار الفائدة. هذا يحتاج إلى دراسة عاجلة؛ لأنه يؤثر على نقطة نهاية دورة التشديد الحالية. نظراً لأن التضخم في الولايات المتحدة يظهر علامات تجاوز ذروته، فإن بعض الاقتصاديين يدعون بالفعل إلى هدف تضخم أعلى، وبالتالي تقليل التشديد الإضافي للحفاظ على هامش أمان كبير وليس المخاطرة بالانكماش.

وفقاً لذلك، لا يمكن للبنوك المركزية أن تهتم فقط بتطورات الاقتصاد الكلي مثل التضخم وفجوة الإنتاج. يجب عليهم أيضاً الانتباه إلى ما يحدث في المؤسسات المالية والأسواق المالية.

ثانياً، يجب أن نفكر في سبب إجبار البنوك المركزية على التيسير النقدي لفترات طويلة وما هي العواقب. ومن الأمثلة على ذلك اليابان، حيث أسيء تفسير النمو الراكد بسبب عوامل هيكلية -ولا سيما الشيخوخة السريعة وتقلص عدد السكان- على أنه ضعف دوري. أدى ذلك إلى عقود من التيسير النقدي. هذا لا يعني أن الانخفاض في سعر الفائدة هو استجابة لانخفاض معدل الفائدة الطبيعي. بدلاً من ذلك، أصبحت السياسة النقدية حلاً سريعاً للمشكلات الهيكلية التي تتطلب إصلاحاً أكثر جذرية.

أخيراً، يجب أن ننتبه للاختلافات الوطنية في الطريقة التي تصمم بها كل دولة إطارها للسياسة النقدية. فممارسات التوظيف المختلفة، على سبيل المثال، تولد ديناميكيات مختلفة للأجور، وبالتالي ديناميكيات تضخم مختلفة. في اليابان، يتسارع التضخم الاستهلاكي ولكن بوتيرة أبطأ بكثير مما هو عليه في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ويرجع ذلك أساساً إلى الممارسة الفريدة المتمثلة في «التوظيف طويل الأجل»: فالعمال اليابانيون، وخاصة في الشركات الكبيرة، محميون بموجب عقد ضمني يحاول بموجبه الرؤساء تجنب تسريح العمال بأي ثمن.

* مستشار اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n7anb84

عن الكاتب

خبير مالي وإقتصادي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"