ما ميَّـزَ الاستـشراق النّـزيه

01:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

سمات عديدة تميّزت بها نخب الدّارسين الغربيّين (المستشرقين)، في القرن التّاسع عشر وفي ثلثيْ القرن العشرين، عن نظائرها في الخمسين عاماً الأخيرة في ميدان الدّراسات الإسلاميّة. تكفينا الإشارة السّريعة إلى خمسة منها قد تكون أظْهَرَها جميعاً:

أوّلها تلك النّزعة العارمة إلى اكتشاف عالم الإسلام في تاريخه الممتدّ؛ ديناً وحضارةً وفكراً وآداباً وتاريخاً سياسيّاً. وهي نزعةٌ متولّدة من ذلك الفضول العلميّ الذي تميّز به مستشرقو الأمس، والذي يَضَحُ أمرُه من كبيرِ حرصهم على تتبُّع حلْقات تراث الإسلام حلْقة حلْقة، في تشابُكها واتّصال بعضها ببعض، تتبُّعاً دقيقاً يُظْهِرنا على هاجس العِلْم بكليّة ذلك التّراث شرطاً للعلم بجزئيّاته عند الأكثر منهم. وليس في الأمر هذا ما يبعث على الاستغراب؛ إذْ إنّ أَمْيَزَ ما يَسِم الفضول العلميّ - والمسكونين به من الباحثين - أنّه يقود، حكماً، إلى سعة الاطّلاع وإلى الدَّأَب عليه بانتظام.

 وثانيها انصراف مستشرقي الأمس إلى الدّرس العلميّ للفكر والثّقافة في الإسلام من طريق العودة إلى المظانّ والمصادر، وعدم الاكتفاء بالملخّصات والعموميّات. وسواء كان الدّارس منهم مشغولاً بالفلسفة أو بالفقه أو بالتّصوُّف أو بالعلم الطّبيعيّ والريّاضيّ أو بالشّعر...، فإنّ دَيْدَنَه في البحث إحصاء مصادر العلم الذي يبحث فيه، وتَعَقُّبُ مخطوطاتها في مكتبات العالم، وقراءتُها. أمّا إنْ عَزَّ بعضُها وفُقِد استقصى المكتوبَ عن ذلك المفقود، في بطون كتب تاريخ الفكر وتاريخ الأدب، فجمعه وضَاهَى بين رواياته لينصرف، بعدها، إلى إعادةِ تركيبِ روايةٍ عن ذلك الأثر المفقود تُقَرّبه إلى القارئ - والدّارس - المعاصر. في الأحوال جميعِها، لا يخطئ هذا النّوع من الدّارسين سبيل الرّصانة في النّظر العلميّ إلى موضوعه، فيرْكَب إليها آمَنَ وسائطِها: النّصوص في مظانّها.

 وثالثها، ذلك النَّفَس العلميّ الطّويل الذي تمتّعت به أجيال من المستشرقين الكبار ممّن تناولوا أمّهات مسائل التّراث الإسلاميّ. يبدأ الواحد منهم عمله في دراسة جانب من جوانب ذلك التّراث - وغالباً ما يتعلّق الأمر بإنجاز رسالة دكتوراه - ثمّ لا يلبث، بعد ذلك، أن يستمرّ في بحث الموضوع عينِه، بعد أن يوسّع نطاقه، أو يبحث في موضوعٍ مُشابه داخل ذلك الميدان العلميّ لسنوات أخرى ممتدّة. وتراه لا يكاد ينتقل إلى وضع تأليفٍ جديد في مسألةٍ أخرى جديدة، إلاّ بعد أن يكون قد أشبع الأوّل بحثاً ووضع في شأنه كتباً. وقد يقارب طولُ النَّفَس العلميّ الموسوعيّةَ من حيث درجاتُ الإحاطة بالموضوع وسعةِ ذلك الموضوع نفسه، وحينها قد يستغرق العمل في بحثٍ سنوات عدّة، ويصدر في أجزاء عدّة، وقد يرحل الدّارس عن الدّنيا قبل أن يستكمل بحثه فيأتي من يستأنفه؛ إمّا في نطاق المشروع ذاته، أو في تأليفٍ خاصّ بالمستأنِف مستقلٍّ عن الأوّل.

ورابعها، أنّ جمهرةً كبيرةً من المستشرقين النّزهاء تحلّت بروحيّةٍ تَفهُّميّة في دراستها تراث الإسلام، على الرّغم من الاختلاف العَقَديّ والثّقافيّ والقيميّ؛ حيث نجحت في تحييد يقينيّاتها الموروثة، وقبْليّات ثقافتها لئلاّ تؤثّر في نظرتها إلى عالَمٍ دينيّ وثقافيّ مختلف، ولكي تَفهم - على التّحقيق - مضمون رؤاهُ إلى العالم والأشياء. هكذا كان الدّارس حريصاً على أن يضع نفسه في قلب موضوعه وبيئة ذلك الموضوع - مستفيداً في ذلك من الدّرس الفينومينولوجيّ - لئلاّ يشعر بأنّه برّانيّ عن موضوعه ولا أنّ هذا برّانيّ عنه، ومن أجل أن يكون قريباً من إدراك المقصِد من غير جنوحٍ منه نحو أحكامٍ معياريّة. وهؤلاء إذْ حفِظوا لتراث الإسلام تاريخيّته - بنزعتهم التّفهُّميّة تلك - كانوا نزهاء، في الوقت عينِه، في التّعبير من أحكامهم عنه ومواقفهم منه، إلى درجةٍ بَلَغَ فيها بعضُهم حدَّ التّعاطُف معه والانْسِكَانِ به.

 لأمّا خامسها فإتقانهم لِلُغات الإسلام الأساسيّة (العربيّة، الفارسيّة، التّركيّة)، بل وحتّى للغاتٍ غير مكتوبة أو محدودة الانتشار والتّداول خارج موطنها، مثل الأورديّة والكُرديّة واللّهجات البربريّة المختلفة. ولمّا كان إتقانُ هذه اللّغات من قِبلهم يَرُدُّ إلى تأثير التّاريخانيّة الفيلولوجيّة فيهم، فقد سمح لهم - بالتّالي - بأن يقوموا بسياحةٍ فكريّة واسعة في أرجاء تراث الإسلام المكتوب وتراثه الشّفهيّ المعاصر ما كانت مُتاحة لغيرهم ممّن يجهلون هذا اللّسان.

 ما عاد يسعنا أن نتحدّث، اليوم، عن هذه التّقاليد العلميّة في الدّراسات الغربيّة للإسلام؛ فلقد انقرضت برحيل الأجيال المتعاقبة التي كانت تتحلّى بها، ولم يعُد يملكها إلاّ مَن تكوّنوا في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وهم قليلون يُعدّون على رؤوس الأصابع (كان منهم الرّاحلان حديثاً: جوزيف ڤان إِس، وأندريه ميڱيل)، أمّا دارسو الإسلام في الغرب هذه الأيّام - بل منذ عقود - فنوعٌ ثانٍ من الدّارسين لا يَحْتازُ شيئاً من الموارد العلميّة للسّابقين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n65yzbe

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"