طباعة النقود في أمريكا بلا سقف

21:20 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

في عشرينيات القرن الماضي، طبعت حكومة جمهورية فايمر (Weimer Government Republic)، الألمانية (من 1919-1933)، 500 مليار مارك ورقي. وفي ظرف ثلاث سنوات من التضخم المفرط «Hyperinflation»، أصبحت قيمة الدولار الأمريكي الواحد تعادل 4.2 تريليون مارك ورقي. وفي فنزويلا، أدت العقوبات الأمريكية الأحادية الجانب المفروضة عليها، إلى اضطرار الحكومة لطباعة 4 تريليونات بوليفار، ما أفضى إلى ارتفاع التضخم في إبريل 2020، إلى 4200% (انخفض إلى 3500% في حزيران/ يونيو 2020).

في الولايات المتحدة، تم في عام 2020 فقط، طباعة 3 تريليونات دولار. وكل ذلك تم في غضون 3 أشهر ونصف الشهر فقط. لكن، وعلى عكس طبيعة عمل الأساسيات الاقتصادية، فإن التضخم في أمريكا لم يرتفع إلا بنسبة 9% فقط. كيف ذلك؟ هنا يحضر ما يسمى التسهيل الكمي «Quantitative Easing»، الذي يمكن أن يفسر هذا السبب. يضطر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للجوء إلى التسهيل الكمي حين يصل الاقتصاد الأمريكي إلى عجز المستهلكين عن الشراء، وعجز وحدات قطاعات الأعمال عن بيع منتجاتها. يحدث ذلك حين يفشل نموذج التمويل التقليدي الذي يعمل به الفيدرالي لتنشيط دورة نمو الاقتصاد، والذي بموجبه يقوم بإقراض البنوك مقابل فائدة معينة، التي تقوم بدورها بإقراض هذه الأموال للمستهلكين مقابل فائدة تؤمن للبنوك هامش ربح بين النسبتين. وحين يرتفع التضخم، يضطر الاحتياطي الفيدرالي لرفع سعر الفائدة (لنقل بنسبة 0.25%) على القروض التي يصرفها للبنوك، فتقوم الأخيرة برفع الفائدة بنفس النسبة للمحافظة على هامش ربحيتها. الذي يحدث، أن المستهلك لم يعد يستطيع تحمل عبء خدمة دينه. فلا يستطيع الاقتراض وبالتالي لا يجد البنك زبائن لقروضه بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج (بسبب التضخم)؛ فتنخفض القدرة الشرائية لأصحاب الرهن العقاري نتيجة لارتفاع قسط البنك. كذلك هو حال بقية المستهلكين الذين سيضطرون لخفض ميزانية نفقات عائلاتهم، فينخفض الطلب ويتراجع قطاع الأعمال. فينشأ وضع لا يكون فيه البائع قادراً على تصريف بضاعته، ولا المشتري قادرٌ على شرائها. فلكأن النقد تجمد في مجرى الاقتصاد.

هنا يتدخل الاحتياطي الفيدرالي بخطته السحرية المسماة التسهيل الكمي، إذ يقوم بتخفيض سعر الفائدة وضخ الدولارات في السوق لإعادة تشغيله. فعوضاً عما كان يفعله في الممارسة التقليدية، بإقراض البنوك، فإنه يقوم بطباعة النقود (100 مليار دولار مثلاً)، ويشتري بقيمتها من البنوك سندات مقابل فائدة رمزية لا تتعدى (0.1%). وهو ما يسمح للبنوك بإقراض الجمهور بفائدة منخفضة لا تتجاوز – مثلاً – 4% بعد أن كانت 8 و9%. وهذا بالتحديد هو الذي مكّن الفيدرالي من المحافظة على سعر الفائدة منخفضاً ومستقراً عند حد يتراوح ما بين 1.58% و2.50% طوال الفترة ما بين 2018 و2020. إلى أن اندلعت جائحة كورونا التي شلت الاقتصاد، فعاد الفيدرالي لطباعة النقود مجدداً وإقراضها للبنوك الكبرى بفائدة لا تتجاوز 0.05%. وقد انعكس ذلك على الاقتصادين الأمريكي والعالمي. فقد أصبح لدى الأمريكيين بفضل تخفيض سعر الفائدة، وإمدادات الدولار الناتجة من طباعة النقود الجديدة («التسهيل الكمي الجديد»)، وفْر في دفع أقساط ديونهم، ومنهم أصحاب الرهن العقاري؛ فزادت القدرة الشرائية للأمريكيين، ما رفع الطلب على السلع في أمريكا وبالتالي، ارتفاع أسعارها. هكذا بدأ مؤشر التضخم في أمريكا بالارتفاع. لكن كيف تسلل هذا التضخم إلى بقية العالم؟ إنها الأضرار الجانبية (Collateral damage)؛ فأسعار السلع ترتفع في أمريكا بسبب ارتفاع الطلب عليها، بينما تبقى أسعار نفس السلع في أوروبا وآسيا، أخفض. وهو ما يحفز المنتجين على تصدير سلعهم إلى السوق الأمريكية وتقليل معروضها في بلدانهم، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها في السوق المحلي أسوة بأسعارها في أمريكا. وهكذا، فإن طباعة النقود في أمريكا تؤدي إلى نقل أثر ارتفاع الأسعار من أمريكا إلى بقية أسواق العالم. يحدث هذا بطبيعة الحال لكافة السلع والخدمات، ما يعني أن التضخم يحدث ليس في أمريكا فقط، وإنما في بلدان أخرى عبر قناة التجارة الدولية. لقد طبعت أمريكا في عام واحد، هو عام 2020، 35% من جملة ما طبعته من دولارات طوال تاريخها.

بهذا المعنى، فإن التسهيل الكمي الأمريكي يؤدي إلى زيادة القدرة الشرائية للأمريكيين (نتيجة لخفض سعر الفائدة)، وإلى زيادة أسعار السلع المبيعة في السوق الأمريكية نتيجة لارتفاع الطلب عليها، وإلى زيادة الطلب على اليورو والين وبقية عملات الدول لاستخدامها لتلبية الطلب الأمريكي على السلع المستوردة من هذه البلدان، فيرتفع اليورو وبقية العملات أمام الدولار نتيجة لذلك، وتتعقد المعادلة الاقتصادية للعالم بأسره. 

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4rtykvjw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"