مئوية «ثعلب» الدبلوماسية

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

كثيرون من نجوم السياسة العالمية تصنعهم مواقعهم، وبمجرد أن يغادروا المنصب تخفت نجوميتهم رويداً رويداً حتى يتلاشوا ويسدل الإعلام عليهم ستائره، وينتقلون من قلب دوائر الضوء إلى عمق العتمة، وقليلهم يصقل الموقع ويضفي عليه لمعاناً ليضاعف من تأثيراته ويحوله إلى صانع رئيسي للأحداث المفصلية في العالم متجاوزاً بتأثيراته حدود دولته إلى دول العالم المختلفة، وبعد أن يغادر المنصب يحتفظ برونقه ويتحول إلى مرجع للقادة وصناع القرار. 

ويعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أهم هذا القليل. أهمية كيسنجر خلال الستين عاماً الماضية فاقت أهمية بعض الرؤساء الأمريكيين الذين قدموا إلى البيت الأبيض بفضل وعودهم الانتخابية، وخرجوا منه وقد خاب أمل ناخبيهم كما خاب أمل الرأي العام العالمي فيهم، وبعد خروجهم تحولوا إلى أشخاص معدومي الذكر إلا في بعض المناسبات البروتوكولية التي تقتضي حضور الرؤساء السابقين مع الرئيس الحالي فيها.  ومنذ غادر كيسنجر وزارة الخارجية الأمريكية عام 1977وهو المرجع الذي يعود إليه ساكن البيت الأبيض ووزير خارجيته عند مواجهة معضلة، ويتساوى في ذلك الديمقراطيون والجمهوريون، وإذا تعالى أحدهم وأخذته العزة بالإثم لجأ الإعلام إلى كيسنجر لاستفتائه، وتقديم رؤيته لصانع القرار على طبق من فضة، وسواء أخذ بها أو أدار لها الظهر فإن ذلك لا ينفي حضور ثعلب الدبلوماسية العالمية، رؤية وتحليلاً، في كل الأحداث العاصفة خلال العقود الماضية. 

 الأسبوع الماضي، تم الاحتفال بمئوية ميلاد مستشار أمنها القومي ووزير خارجيتها الأشهر. فهو في نظر البعض، الحكيم ذو الرؤية الثاقبة، وفي نظر البعض الآخر مجرم الحرب الذي اتخذ قرارات تسببت في إبادة آلاف حول العالم، ومن يتأمل سيرة الرجل يجده فعلاً رجل التناقضات السياسية، الذي حركته في دبلوماسيته مصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل التي لم يتخذ قراراً من موقعه التنفيذي ولم يقدم رأياً في موقعه الاستشاري إلا وكان مراعياً لمصالحها. 

 أمريكا بالنسبة له الوطن والموطن الذي لجأ إليه عام 1939 هرباً من ألمانيا النازية، وهي التي احتضنته، وفي أشهر جامعاتها، هارفارد، لمع نجمه طالباً ثم أستاذاً، ومن محرابها تولى مسؤولية مستشار الأمن القومي ثم وزارة الخارجية، ليصبح الوزير الذي يشعل حرائق ويطفئ أخرى، لم يتخذ قراراً إلا وهو يضع نصب عينيه استمرار السيادة الأمريكية على قارات الدنيا. 

 صنع أزمات وتسبب في إبادة بشر ونشر ذعراً في دول مختلفة، بنجلاديش وفيتنام وكمبوديا ولاوس وباكستان وتشيلي وتيمور الشرقية ولبنان وقبرص، كما ساهم في وقف حروب. ولن ننسى جولاته المكوكية بين القاهرة ودمشق وتل أبيب خلال حرب أكتوبر 1973 لوقف إطلاق النار، حرصاً على إسرائيل ووضع لبنات السلام بين مصر وإسرائيل، والذي انتهى بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.  كما لعب دوراً مهماً في تهدئة التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق إبان الحرب الباردة، ولعب الدور الأهم في تطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين خلال السبعينات، وظل محتفظاً بعلاقات مودة مع زعماء الصين على مدار السنوات الماضية، ولعل ذلك كان السبب في أن تحرص الصين على إرسال سفيرها الجديد في واشنطن، الجمعة قبل الماضية إليه لتهنئته بعيده المئوي. 

 كيسنجر، المئوي، الحائز نوبل للسلام، مازال حاضر الذهن ثاقب الرؤية، أكثر من رؤساء أمريكيين يتلعثمون ويقعون في زلات توحي بفقدان تركيزهم، ولو أن ساسة بلاده أخذوا برؤاه التي أعلنها مراراً وآخرها في حوار الأسبوع الماضي، لأوقفوا الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، التي لن يخرج منها أحد منتصراً.

 وفي نفس الحوار حذر من حالة «الفوضى» التي تجتاح العالم ويمكن أن تحوله إلى «عالم تمزّقه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين»، محذراً من تطوّر الصراع مع الصين، وتحدّث عن «الخصومة الطائشة»، وأخطر ما قاله هو التحذير من أسلحة اليوم وزمن «الذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يدمّر الحضارة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4h9fa96n

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"