ذاكرة النورماندي المثقوبة

01:14 صباحا
قراءة دقيقتين

مفتاح شعيب

أحيا الحلفاء الغربيون ذكرى إنزال النورماندي الذي أحكم الخناق مع الهجوم السوفييتي المتقدم من الشرق على النظام النازي في ألمانيا قبل تسعة وسبعين عاماً، وبسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، فإن إحياء هذه المناسبة، شابه كثير من الجدل والسجال بين العواصم الغربية وموسكو التي كانت تقاتل معاً ضمن تحالف منزوع الثقة والمودة، لكن المصلحة المؤقتة خلال الحرب العالمية الثانية، أرجأت الخلاف بين الطرفين حتى تفجر عداء صريح خلال الحقبة السوفييتية، واليوم يأخذ أبعاداً أخرى.

 منذ انتهاء تلك الحرب الكبرى، يشعر الروس بالغبن، لأن الغربيين سعوا إلى تجيير الانتصار على النازية لمصلحتهم، وتهميش أي دور لدول أخرى، على الرغم من أن التاريخ يشهد بأن الجيش الأحمر السوفييتي، قاد أوسع الجبهات وأكثرها شراسة، ولو لم يرتكب أدولف هتلر حماقته القاتلة بإطلاق «عملية بارباروسا» وأبقى موسكو على الحياد، لكانت مجريات الحرب مختلفة، ولكانت نتيجتها عالماً مختلفاً عن الذي تشكل لاحقاً. 

 وهذه الحقيقة تتجاهلها النرجسية الأوروبية، ويتغاضى عنها «السوبرمان» الأمريكي. وعندما يقول الروس اليوم، إن حلفاءهم السابقين عمدوا إلى تزوير الوقائع، واعتمدوا على آلاتهم الإعلامية الضاربة لتصوير النصر على النازية بأنه إنجاز خالص لواشنطن ولندن وباريس وأوتاوا وكانبيرا، فهم لم يجانبوا الصواب، وقد برهن على ذلك وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في كلمة بمناسبة ذكرى النورماندي، وهو ما يثير استياء الروس، ويرجح احتمالية التحريف، وهذا يسهم في توسيع الفجوة، ويفاقم التباين القائم حول القضايا الراهنة.

 الخلاف على التاريخ يوفر وقوداً لا ينضب للصراع على المستقبل، فالحروب لا تندلع بسبب المصالح والحسابات التي تتصل بهذه الدولة أو تلك. وبعض الحروب تخوضها شعوب وأمم، ثأراً للكرامة الوطنية إذا تعرضت للحيف أو التهميش. والعملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا مثال على ذلك، فقد كان من عناوينها المحافظة على «الوجود الروسي»، والشعور بالتهميش، الذي يشعر به المسؤولون في موسكو، يغذيه الغرب عنوة وبسابق إصرار، والهدف التخلص من هذه القوة، التي ظلت عائقاً للمشروع الأمريكي، سواء عندما كانت روسيا سوفييتية أو ما بعد ذلك. وقد استفحل العداء بعد أن رفضت أن تكون تابعاً أو شاهد زور على ما يحدث في العالم.

 يحتاج تاريخ الحرب العالمية الثانية إلى إعادة كتابة، تماماً ككل أحداث القرن العشرين حتى هذه اللحظة. فهناك كثير من الحقائق مغيبة، وبداية حقبة جديدة ضمن نظام عالمي مختلف، تستوجب تصفية الحسابات السابقة، وإنصاف دول، وإعادة الاعتبار لشعوب وأمم كثيرة تعرضت للاضطهاد والنهب والتقسيم. والخلاف الغربي الروسي على حيثيات المعركة، نموذج من سلسلة أخطاء وتجاوزات تم ارتكابها بحق التاريخ نفسه، وعندما تكون الذاكرة مكتملة وغير مثقوبة، فإن المستقبل سيسير في طريق واضح لا تعوقه المطبات، ولا تهدده الصراعات. والخلافات على الماضي عندما تستمر وتستفحل ستكون وقوداً لحروب المستقبل، وتدفع إلى عودة التطرف، وإيقاظ النزعات الفاشية، فالنازية نشأت بسبب شعور نخبة ألمانية بالضيم، والنصر عليها لم يقتل تلك المشاعر، لكنه قد يكون زرعها في مناطق أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3kanjny7

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"