مئة عام على «لوزان»

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

مرت الأسبوع الماضي، ذكرى مرور مئة عام على توقيع معاهدة «لوزان» في 24 تموز/يوليو 1923. والمعاهدة وقعت بين «حكومة البرلمان التركي الكبير» التي كان يرأسها مصطفى كمال أتاتورك ممثلة في وزير الخارجية عصمت إينونو من جهة وممثلي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وعلى رأسهم ممثلو بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وغيرها من جهة أخرى.

وأهمية هذه المعاهدة أنها ثبتت تقريباً كل الحدود التي كان رسمها مصطفى كمال خلال حرب التحرير الوطنية سواء بمعاهدات دبلوماسية أو بمعارك عسكرية، باستثناء الموصل التي ذهبت عام 1926 إلى العراق، والإسكندرون الذي ضمته تركيا إليها عام 1939. وبعد المعاهدة بثلاثة أشهر، في 29 تشرين الأول/أكتوبر، كان مصطفى كمال يعلن قيام «جمهورية تركيا».

كانت «لوزان» وثيقة خروج تركيا من هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وبداية تأسيس تركيا الجديدة التي أدخلت للمرة الأولى بلداً مسلماً في خضم تجارب الحداثة على الطريقة الغربية.

كانت «الإصلاحات» التي باشر بها أتاتورك غريبة بعض الشيء على مجتمع تشرب بالثقافة الإسلامية على امتداد قرون. ولعل اعتماد مبدأ العلمانية في التشريع والقوانين وفي الدولة والحياة العامة العنوان الأبرز لما عرف لاحقاً باسم «الكمالية» نسبة إلى مصطفى كمال. كان اقتباس القانون المدني من سويسرا وفرنسا عمود العلمانية، إضافة إلى استبعاد المؤثرات الدينية عن كل ما يمت بصلة إلى الدولة والمجتمع.

غير أن عدم «تعوّد» الأتراك على مفهوم العلمنة المطبق في الغرب، أدخل البلاد في معمعة من الارتباك والتناقض والنظر إلى العلمنة كما لو أنها تعني معاداة الدين؛ بحيث بالكاد توفي أتاتورك عام 1938 حتى نشب الصراع على اكتساب الصوت الإسلامي الذي لم يكن مقتنعاً بما جاء به أتاتورك واندفع حتى «العلمانيون» لكسب الصوت الإسلامي، وبالتالي توظيف الدين لغايات سياسية. وبذلك دخلت تركيا مراحل ما عادت تعرف تمييزاً فعلياً بين الأحزاب العلمانية والأحزاب ذات الانفتاح على القيم الدينية.

وفي عام 1970 كانت بداية الإسلام السياسي الحزبي مع نجم الدين أربكان، الذي وصل ذروته مع حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان الذي نجح في الوصول إلى السلطة منفرداً عام 2002 لتبدأ واحدة من المراحل الأكثر إثارة في التاريخ التركي الحديث.

لكن لوزان حملت في طياتها بذور الانقسامات الأهلية عندما تجاهلت وجود أقليات وازنة عرقية ودينية ومذهبية وهو ما تسبب في نزاعات وصدامات داخلية لم تتوقف حتى الآن.

وإذا كان أردوغان هدفاً في الداخل إلى محاولة تغيير النظام ليكون أقل علمانية وأكثر إسلامية، فإنه انتهج في السياسة الخارجية ما يمكن اعتباره تناقضاً مع الواقع الذي رسمته «لوزان».

فقد رفع أردوغان الصوت عالياً في صيف 2016 ليعتبر أن معاهدة لوزان كانت هزيمة أراد الخارج أن يوهم الأتراك بأنها نصر. ودعا إلى تغيير وتصحيح الواقع القائم. وأشار أردوغان حرفياً إلى مسألة «تنازل» أتاتورك عن بعض الجزر في بحر إيجه. أكثر من ذلك صرّح أردوغان أن تركيا يجب أن تتحرك في شمال العراق وشمال سوريا بما ينسجم مع مفهوم «الميثاق الملّي». ويقصد هنا القرار الذي اتخذه البرلمان العثماني وبمشاركة مصطفى كمال شخصياً في 28 كانون الثاني/يناير 1920 ويرسم حدود تركيا على أنها تركيا الحالية مضافاً إليها شمال العراق وشمال سوريا وبعض الجزر في بحر إيجه والأراضي في القوقاز. وهذا التوجه الخارجي كان في أساس وجود تركيا في أجزاء من شمال سوريا والعراق والتوترات مع اليونان في السنوات الأخيرة.

تحولت «لوزان»، التي احتفل بها لثلاثين سنة عيداً، مع الإسلام السياسي إلى وثيقة «قيد الدرس» وهي التي كانت في أساس إنقاذ تركيا من التشظي والاحتلالات. وإذا كان اعتماد العلمنة أو غيرها شأناً داخلياً تركياً، غير أن محاولة «تصحيح» المعاهدة على الصعيد الخارجي شكّل فعلاً ولا يزال يشكل خطراً على علاقات حسن الجوار. لأن مثل هذا التصحيح لا يعني سوى تغيير الواقع القانوني القائم حالياً منذ مئة عام والتلاعب بالحدود بين الدول، وما يعنيه من حروب وصراعات تبدأ ولا تنتهي وهو ما نشهده فعلاً في الوقت الراهن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9fb8e6

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"