تحولات تركية

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان
تبدو تركيا أمام مرحلة جديدة من التموضع السياسي والاقتصادي، لكنها في نفس الوقت محكومة بمُقيدات جوهرية، لا يمكن القفز فوقها بسهولة. وقد توضَّح للرأي العام أن الرئيس رجب طيب أردوغان أعاد النظر ببعض التوجهات التي كان يعتمدها قبل الانتخابات التي جرت في 25 مايو/ أيار، وأسفرت عن فوزه بولاية رئاسية ثالثة.

أثار موقف الرئيس أردوغان، في المرحلة السابقة، حيرة لدى أصدقائه كما لدى خصومه، عندما اعتمد مقاربة متمايزة عن دول حلف شمالي الأطلسي فيما يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا منذ 2022، على الرغم من أن تركيا عضو مؤثر في الحلف، وقد عزَّز علاقته مع روسيا، إبان السنوات الماضية، واستطاع من خلال هذه العلاقة إجراء وساطة بين روسيا وأوكرانيا، وإبرام تفاهمات مهمة بينهما، ومنها رعاية الاتفاق على تصدير الحبوب بأمان عبر الموانئ المُتشاطئة للبحر الأسود، خصوصاً الأوكرانية منها، لكن مفعول الاتفاق انتهى في 17 يوليو/ تموز ولم يتجدَّد.

مع مطلع ولايته الرئاسية الجديدة، فاجأ أردوغان الأوساط الدولية بمجموعة من المواقف، تنمُّ عن تعديلات جوهرية في سياسته الخارجية؛ إذ استقبل الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في إسطنبول في 7 يونيو/ حزيران، وسلمه خمسة من القادة العسكريين الأوكرانيين من كتيبة آزوف، تتهمهم موسكو بالإرهاب، وكان قد وعد صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بألا يسلمهم إلى كييف إلا بعد موافقة موسكو. وشارك أردوغان بفاعلية في قمة حلف الناتو التي انعقدت في عاصمة ليتوانيا على مقربة من الحدود الروسية في 11يوليو/ تموز، ووافق فيها على طلب انضمام السويد الى الحلف، على الرغم من أنه كان يضع شروطاً قاسية قبل الإعلان عن هذه الموافقة الغالية الثمن، لأن نظام الحلف لا يسمح بقبول عضوية أي دولة جديدة إلا بعد تأييد كافة الدول الأعضاء.

أما على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط؛ فقد ظهر أن الرئيس أردوغان أعاد النظر بسياسته، واعتمد مقاربة جديدة؛ إذ تخلى فيها عن بعض عناوين سياسته القديمة، لا سيما العقدية منها، فأعاد الحيوية للعلاقات مع مصر، وفعَّل التعاون مع دول الخليج العربي، بينما بدا أنه أكثر تشدداً في سياق تعاطيه المباشر بالشؤون السورية، بما لا يرضي روسيا، ولا إيران.

ما الدوافع التي تقف وراء التغيير في السياسة الخارجية التركية؟

بالمقام الأول، يبدو أن الوضع الاقتصادي الحرِج في تركيا، دفع أردوغان إلى تغيير تموضعه السياسي والاقتصادي. والتضخُّم في الأسعار الاستهلاكية في تركيا استمرَّ في الارتفاع بعد الانتخابات، وكذلك الهبوط في قيمة الليرة التركية التي خسرت أكثر من 30 في المئة من قيمتها منذ 25 مايو/ أيار الماضي حتى اليوم. والاندفاع التركي السابق نحو تعزيز العلاقات التجارية مع روسيا؛ لم يؤدِ إلى النتيجة المرجوة، وبقيت الصادرات التركية إلى روسيا في حدود 3.7 من مجمل الصادرات الخارجية، بينما تراكم الدين الروسي على تركيا، بسبب استيراد الغاز إلى ما يزيد على 20 مليار دولار، ما يعني أن إنقاذ الاقتصاد التركي، لا يمكن أن يحصل من البوابة الروسية، على الرغم من حرص أردوغان على إبقاء العلاقة مقبولة مع موسكو، وهو غير قادر على الاستغناء عنها في الوقت الراهن.

وقد تبين أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء موافقة تركيا على طلب انضمام السويد إلى الناتو؛ هو وعد الرئيس الأمريكي جو بايدن للرئيس أردوغان بتقديم قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لتركيا، والموافقة على تزويد تركيا بطائرات إف- 16 الحربية المتطورة، بينما تعهد قادة الاتحاد الأوروبي بعودة المفاوضات المتوقفة بين الجانبين حول طلب انضمام تركيا للاتحاد. ويبدو واضحاً لدى أردوغان أن سدّ حاجة تركيا إلى العملات الصعبة لضبط الفوارق السلبية في الميزان التجاري؛ لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال التعاون مع الدول الغربية، ومع الدول العربية التي تتمتع بملاءة اقتصادية وازنة، خصوصاً دول الخليج التي زارها أردوغان مؤخراً.

مهما يكُن من أمر؛ فإن العلاقات التركية مع روسيا محكومة بسقف المصالح المشتركة الكبيرة بين البلدين. فروسيا تحتاج إلى تركيا كمنفذ سياسي واقتصادي مهم، نظراً لما تعانيه من العقوبات الغربية المفروضة عليها، وتركيا ليست بوارد الاستغناء عن التعاون مع روسيا، نظراً لأهمية المشروعات المستقبلية التي تنفذها الأخيرة في تركيا، لا سيما المحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، لكن المفاجآت السياسية تبقى واردة على الرغم من كل شيء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y5u2h9ya

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"