د. ناصر زيدان
فرض مفهوم المواطنة نفسه كمقاربة سياسية ضرورية لتوفير انتظام عام في الدول والمجتمعات، وهي تُلزم الأفراد بمسؤوليات تجاه الدولة التي يعيشون فيها، كما تمنحهم حقوقهم في العيش بكرامة، وفي ذات الوقت تفرض على الدولة حماية هؤلاء المواطنين، وتوفير تكافؤ الفرص أمامهم بالتساوي، وتعطيها تفويضاً بحق ممارسة السلطة واستخدام القوة إذا لزم الأمر لفرض احترام القانون.
والمواطنة تحتاج إلى القانون وإلى مؤسسات إدارية وأمنية تعيش في كنفها، ومن دون ذلك يصعُب اعتمادها، لأن شوائب كثيرة تدخل عليها، وتشوه مقاصدها. وفي الفوضى تترعرع الطحالب الاجتماعية السامة، وبدل أن تحقق المساواة بين المواطنين؛ قد تجنح المجتمعات نحو اتجاهات غير واضحة، فيقع الاضطراب، وتتفكَّك الأسر، وتغلُب حالة التحلُّل من القيم الموروثة، والتي أثبتت نجاعتها في حفظ تاريخ الأمم، وفي التماسُك الإنساني، وفي الإبقاء على النسيج المجتمعي للدول ضمن الضوابط المعهودة.
يتم التسويق لنمطية غير سويَّة من المواطنة المُتفلِّتة، بهدف التحلُّل من كل القيم تحت شعاراتٍ متعددة، منها ما يحتمي بشرعة حقوق الإنسان، ومنها ما يستند إلى قواعد العهود الدولية التي رعت الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للناس، وهذه الاتفاقيات لم تتنكَّر للقيم النبيلة الموروثة، ولم تتعرَّض للتجارب الأصيلة التي اغتنت من تعاليم الأديان السماوية السمحاء، وهي أكدت احترام الموروثات الثقافية للشعوب، بما لا يتعارض مع قواعد القانون الذي يفرض المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
قد تكون البيئة العربية عامةً بحاجة - وأكثر من أي يوم مضى - إلى توفير نظام مواطنة عصري، ومتحرر من كل الشوائب، يفرض المساواة بين كل الناس، ويعتمد الإدارة الرشيدة التي تخدم الجميع من دون تفرقة دينية أو سياسية أو عرقية، ويعطي كل ذي حق حقه، لا سيما البديهي منه، وتحديداً الذي يتعلق بالحماية الجسدية وبالحق في العيش بكرامة، وبالعمل ضمن القوانين المرعية الإجراء، من غير أن يكون مضطراً لتقديم رشوة أو محاباة للمسؤول لكي يحصل على الخدمة المرجوة.
ومع أهمية الحق بالسيادة للدول على أراضيها، وفقاً للقانون الدولي العام، تبقى للحصانة الشخصية التي تتعلَّق بالسلامة الجسدية وبالحق بالكرامة الإنسانية لأي مخلوق، أساساً لا يمكن القفز فوقه تحت أي اعتبار، ولا فرق في هذا السياق بين جميع السكان لجهة ألا حق لأحد بالمسّ بالسلامة الجسدية أو بكرامة الآخر.. وبالمقابل فإن إعطاء فرصة للنازحين مثلاً في أي دولة للعمل؛ لا يعني أنهم أصحاب حق في استباحة قوانين هذه الدول، أو المسّ بالقيم التي تتمسك بها مجتمعات تلك الدول.
وقد أقرَّت معاهدة ماستريخت لعام 1992، والتي أنشئ بموجبها الاتحاد الأوروبي، بأن المواطنة ووحدة معايير حقوق الإنسان هي الأساس الذي تبنى عليه وحدة الاتحاد، ومن دونها لا يمكن تحقيق هذه الوحدة. لكن احترام البديهيات من الحقوق لأي مُقيم على أراضي دول الاتحاد، لا يعني استباحة القوانين المحلية التي تنظِّم الأعمال وتحفظ الأمن. أما في مجال الأحوال الشخصية، فلكل إنسان الحق في اعتماد الاختيارات الخاصة، من دون أن يعني ذلك منع الناس من اعتماد خيارات تتلاءم مع تقاليدها الموروثة -ومنها التعاليم الدينية- فذلك هو خيار شخصي ليس لأحد حق التدخل فيه، إذا ما كان يجري وفقاً للقوانين المرعية.
تحاول جهات متعددة اعتبار المواطنة تحرُّراً من كل المقيدات الاجتماعية، وتعتبر أن شرط تحقيقها الأساسي، إلغاء كل القوانين المرعية في ما يتعلَّق بالأحوال الشخصية، وإطلاق الحريات في هذا السياق على مصراعيها، بما في ذلك حق الاختيار الجندري للأشخاص، بينما دساتير الدول، أو الأعراف المعمول بها، استناداً إلى القيم الدينية والموروثات الاجتماعية، تمنع اعتماد هذه الخيارات الراديكالية المُتفلتة، وهي على حق في ذلك، لأن السماح باعتماد مقاربات جديدة مُتحللة من أي قيود قد يؤدي إلى اضمحلال البشرية، وتفكُّك المجتمعات على شاكلة مُخيفة، وهو ليس خياراً طبيعياً، كما يدعي المدافعون عنه، بل مقاربة لها خلفيات سياسية تروِّج لها جهات منغمسة في الدفاع عن فكر معين. وقد أثبتت تطورات الأحداث -لا سيما ما جرى من ظلم وقهر وعدوان بحق الشعب الفلسطيني في غزة- أن بعض الذين يسوّقون لقوانين حقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني، يدافعون عن مرتكبي الجرائم عندما تفرض مصالحهم ذلك.
أما الإشكالية التي تتعلَّق بالتعامل مع النازحين من بلدانهم لأسباب مختلفة؛ فلا بد من إيجاد حلول لها تتماشى مع السيادة الوطنية للدول المستقبِلة، وبما يحفظ كرامة وأمن اللاجئين، مع حفظ حقهم بالعودة إلى دولهم الأصلية، لأن الاختلال المعيشي أو الأمني أو السياسي الذي دفع هؤلاء للنزوح، ليس من مسؤولية الدول المستقبِلة، بل مسؤولية المجتمع الدولي، وبالتالي فإن حقوق هؤلاء تختلف بالضرورة عن حقوق المواطنين الذين ينتمون أساساً إلى الدولة. أما الذين يطالبون بعولمة المواطنة؛ فهم أكثر من غيرهم يدافعون عن التمايز بين الأُمم ويمارسون شيئاً من الاستكبار من حينٍ لآخر.