تراجع فرنسي وتقدم أمريكي

00:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين
ثمة من لا يزال يعتقد أن فرنسا تمتلك القدرة للتحرك منفردة في قضايا الشرق الأوسط وبالتحديد المواضيع ذات الصلة بلبنان، انطلاقاً من اعتبارات متعددة الأوجه، إلا أن واقع الأمر مختلف تماما بفعل بعض المتغيرات المتصلة بالواقع اللبناني تحديداً، فالسلوك السياسي المجتمعي في لبنان اتخذ منحى آخر،إذ لم تعد باريس قبلة اللبنانيين كما كانت قبلاً، بل ثمة قوى وازنة تعتبر التعامل مع واشنطن أكثر فعالية، رغم الانتكاسات التي واجهت بعض المعولين عليها.

ودليل ذلك اليوم ما يشهده تراجع الدور الفرنسي في الأزمة اللبنانية وبالتحديد موضوع انتخابات الرئاسة، فبعد الزخم الذي أعطته اللجنة الخماسية لباريس، بدا اليوم أن ثمة تراجعاً واضحاً في سياسة الدعم التي أعطيت سابقا، بل ثمة من يعتبر حراك جان إيف لودريان الأخير عبر التواصل بالمراسلة مع رؤساء الكتل النيابية اللبنانية تصرفا غير مغطى ويعتبر من بنات أفكار سياسة باريس، وبالتالي لن تصل إلى مبتغاها المرغوب، بل من الممكن أن يكون سلوكاً سيزيد الأمور تعقيداً ويعزز مظاهر التباين والتوتير إن في الواقع الداخلي اللبناني أو الإقليمي والدولي. ثمة عودة أمريكية قوية إلى المنطقة بعد تراخي حراكها إثر انفجار الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث لوحظ انكفاء واشنطن النسبي عن المنطقة مقابل الانخراط في المواجهة مع موسكو، ما أتاح للصبن التقدم في ملفات المنطقة وبخاصة الخليجية منها كعودة العلاقات السعودية الإيرانية والانفتاح على سوريا وإعادتها إلى أجواء جامعة الدول العربية، فيما اليوم تشهد المنطقة إعادة خلط أوراق جديدة وبقوة، ظهرت في رغبة أمريكية واضحة بإعادة انتشار عسكري في سوريا ورغبة أمريكية أيضاً في عدم تطوير العلاقات بين الرياض وطهران وإبقائها في أطر الجوانب الدبلوماسية بعيداً عن الجوانب الاقتصادية والتجارية التي تسعى طهران إليها وتعارضها بطبيعة الأمر واشنطن، رغم صفقة تبادل المحتجزين الأمريكيين مقابل الإفراج عن مليارات الدولارات المحتجزة بموجب العقوبات الأمريكية على طهران.

هذه الوقائع والمؤشرات التي ظهرت مؤخراً أرخت بثقلها على الواقع اللبناني، وأبطأت الحراك الفرنسي إن لم يكن إنهاءه عمليا، ما يعني أن المبادرة الفرنسية التي سيستأنفها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان هي بحكم الموت السريري وتنتظر معجزة من الصعب تحققها في ظل هذه الظروف، وبالتالي فإن الوضع اللبناني ذاهب إلى مزيد من التأزيم وسط انعدام جدي لأي حراك من قبل اللجنة الخماسية مجتمعة، وعليه ثمة مزيد من التصعيد الداخلي في لبنان الدي بدأ يترجم ليس بمواقف متشددة فقط بل تعداه إلى انفلات الوضع الأمني بشكل لافت،علاوة على مظاهر الغليان الاجتماعي الناجم عن تفلت الأوضاع المعيشية وتحلل مؤسسات الدولة وانعدام الخدمات الأساسية المفقودة أصلاً.

إن ابتعاد واشنطن النسبي عن الملف الأوكراني وتركه في عهدة الأوروبيين حاليا، سيعيد واشنطن إلى ساحة الشرق الأوسط بتشدد وربما سيكون مفرطاً في المرحلة القادمة، وهو ما ظهر بشكل لافت مؤخراً إن في الساحتين العراقية والسورية أوالفلسطينية في شقها اللبناني أو الداخل الفلسطيني، علاوة على العديد من الملفات المتفرقة في دول المنطقة، ما يشي بصور قاتمة تصعب فيها المرونة في التعاطي مع الملفات الرئيسية في المنطقة.

ثمة من يقول إن لبنان متروك لقدره حاليا، ولا أولوية له في أي حراك إقليمي أو دولي، وبالتالي باق على لائحة الانتظار ريثما تنضج بعض الملفات المتصلة، وثمة من يرى أيضا أن أي نضج لأفكار أو حلول لن يكون إلا نتاجاً لأحداث صاخبة تعدل موازين القوى القائمة وتعيد قواعد الاشتباك والاستئثار فيها، ومن المؤكد أن لبنان سيكون الأكثر عرضة لهذه المتغيرات والأكثر تأثراً بها، ذلك في ظروف مدمرة يعيشها لبنان شعباً وما تبقى من مظاهر دولة متحللة. فهل تظهر معجزة ما في ظل هذا التراجع الفرنسي والعودة الأمريكية القوية ؟ يبدو أنها معجزة!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv6shyjn

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"