الديمقراطية الحديثة وأخلاقيات السياسة

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

ثمةَ خطرٌ شديد يُهدد الديمقراطية بمفهومها العصري الحديث. وثمةَ خطرٌ شديد أيضاً يُهدد الأخلاق العامة ومستقبل البشرية من جراء المبالغة في تفسير المبادئ الديمقراطية، أو استخدام بعض جوانبها لتحقيق أغراض تتنافى مع مقاصدها الجوهرية، ذلك أن الهدف من ممارسة الشورى أو الديمقراطية، هو التعبير عن إرادة الناس، وعدم فرض ما يمكن أن يتعارض مع رأي الغالبية من المواطنين، وصناعة لوائح تشريعية تحقق لهم المصلحة والاستقرار، ضمن ضوابط حددتها العقود الوطنية التأسيسية في غالبية الدول، وأشارت إليها الديانات السماوية، وهناك الكثير من الدساتير أشارت في مقدمتها إلى الإجلال لله، ومنها حدَّد ديانة الدولة أيضاً، وهذا الأمر يفرض على المُشرّعين المنتخبين الركون إلى القيم التي يتفق عليها غالبية الشعب.

يمكن التأكيد أن بعض الأعمال التشريعية في دول «غربية»، خرجت عن السياق العام المتعارف عليه بالتقادم لدى البشرية جمعاء بحجة إطلاق مزيد من التقدُّم، ومنها محاولة إنتاج مفاهيم جديدة للهروب من الاعتقاد الراسخ بأن الله خلق الناس من ذكرٍ وأُنثى، والأديان السماوية أشارت إلى هذه الواقعة، وهذه الأديان لم تتنكر لأي نفسٍ بشرية خلقها الله بوضعياتٍ خاصة، ولهؤلاء الحق بالحياة والرعاية كما غيرهم، لكن الزواج سرٌ مقدس بين المرأة والرجل حصراً في المسيحية، ولا يحصل في الإسلام إلا بين رجلٍ وامرأة. وتشريع زواج المثليين يأتي من ضمن تجاوز حدود الصلاحية وفقاً لفلسفة القانون، لأن قوننة ما هو خارج الطبيعة الآدمية، يعد خروجاً على حدّ السلطة، وهذه السلطة لا يمكن أن تكون مطلقة ومجرَّدة من أي قيد، وحينها ماذا يمنع «تشريع القتل مثلاً» إذا ما حصل وانحرفت الأكثرية لأي سببٍ كان.

يقول المفكر والكاتب الأمريكي مايكل والزر: لا يجوز اعتبار أن كل ما يُشرَّع بقانون؛ حق. والميكيافيلية لم تصل إلى حد تبرير اعتماد أي وسيلة للوصول إلى الهدف، وميكيافيللي دعا إلى ممارسة البراغماتية ضمن حدود الالتزام بالأخلاق العامة، وتجنَّب تدمير التراكم الحضاري للبشرية. حتى إن المفاهيم التي اعتمدها القياصرة الروس قبل عام 1917، وشعارهم «ما هو مصلحة للقيصر، هو مصلحة للدولة»، لم تتخط حدود الكرامة الإنسانية الخاصة بالنفس البشرية، ومفاهيمهم فصلت ما بين ما هو لله وما هو للقيصر.

ويتفق فقهاء العلوم السياسية على أنه لا يمكن ممارسة قيادة الناس وتوجيههم وحفظ مصالحهم دون الالتزام بمعايير الأخلاق. والأخلاق في السياسة، نزاهة واستقامة وإخلاص للمصلحة العامة والتجرُّد والصراحة واللياقة. ولا يمكن إنكار كون بعض جوانب الممارسات الديمقراطية الحديثة وبعض التصرفات الأُوليغارشية دمَّرت الفكرة، وتحولت مهنة بعض السياسيين إلى ما يشبه المقاولة التي يمكنها تعهد القيام بأي عمل، بما في ذلك بعض الأعمال التي تحتوي على قذارة جلية. بينما السياسة هي من أشرف المهن، لأنها تتعلَّق بقيادة الناس وفق تعبير المفكر اللبناني كمال جنبلاط.

لا يمكن إنكار كون الديمقراطية الحديثة أسست لاستقرار سياسي في دول عديدة، ومنها خصوصاً الدول «الغربية» التي نجحت في إغناء الحياة البشرية، من خلال المساهمة الفعالة في تطوير الأنظمة والقوانين وتشجيع الابتكارات العلمية والثقافية. وفي المقابل، لا يمكن التسليم بأن النُظم السياسية والمؤسسات الدستورية التي تعتمد المقاربات الديمقراطية الحديثة، قادرة على التعامل مع كل ظواهر الحياة البشرية، أو أنها قادرة على تحدي الطبيعة أيضاً.

ما يمكن التسليم به في سياق الملفات الاقتصادية أو السياسية، لا ينطبق على بعض أسرار الطبيعة التي ما زالت عصية على القدرات الهائلة التي وصل إليها الإنسان. والتغوُّل في المساحات الفسيحة لأسرار الكون، قد يكون متعباً أكثر مما يتصوره بعضهم. وفكرة المادية التاريخية التي أسس لها كارل ماركس منذ منتصف القرن التاسع عشر، أخفقت في العيش طويلاً، وهي ترنَّحت مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990.

إن الحفاظ على الطبيعة بكل مشتملاتها ليس مطلباً دينياً فقط، كما يحاول بعض المتمسكين بنظرية «الحرية من دون حدود»، بل هي ضرورة إنسانية جامعة، وتجاوز حدود الطبيعة، وابتكار تسميات جديدة للمخلوقات البشرية، فيهما مغامرة قد تُهدِد مستقبل البشرية، وربما تنقلب على غلاة المطالبين بها بالدرجة الأولى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2k5456dz

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"