عادي
العولمة تُفقد لغة الضاد بريقها

طلبة يتلعثمون بـ «العربية»..ويتحدثون «الإنجليزية» بطلاقة

01:45 صباحا
قراءة 7 دقائق

تحقيق: راشد النعيمي
أكثر من أي وقت مضى تعيش اللغة العربية تراجعاً واضحاً لدى الأطفال والطلبة، حتى تكاد تختفي مفرداتها لمصلحة اللغة الإنجليزية التي تمددت واتسعت، وباتت لغة تخاطب حتى في وسط الأسرة الضيق الناطق أصلاً بالعربية، حتى وصلت الحال ببعض أولياء الأمور إلى الاستعانة بمعلم خاص لإنقاذ الوضع، وتحقيق النجاح المطلوب في المدرسة، بعد أن كانت الدروس الخصوصية تتجه لتقوية الإنجليزية.

خطورة تراجع العربية تنعكس سلباً على الإنسان والأسرة والمجتمع، وتفقده عنصراً جوهرياً من عناصر هويته، وتحرمه من اللسان المعبّر عن ماضيه وحاضره ومستقبله وقيمه الثقافية والحضارية فيما باتت الهوية الوطنية في خطر في ظل الاهتمام الأوحد باللغة الإنجليزية في المدارس وحتى الجامعات الوطنية التي أطلقت تخصصات حيوية تدرس كلها بالإنجليزية، وتطلب من الطالب الحصول على معدلات عالية.

أكاديميون حذروا المجتمع عبر «الخليج»، من هذه الظاهرة المتنامية وطالبوا بضرورة وضع حلول فورية لها. مشيرين إلى أن الآثار المترتبة على هذا التحول اللغوي، قد تمتد إلى النسيج الثقافي للأمة.

الصورة

تحديات كبرى

قال الدكتور حسن محمد النابودة، عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في «جامعة الإمارات»: لا شك في أن العربية تواجه تحديات كبرى في عصرنا هذا، وأبرزها ميل الأطفال والنشء إلى التواصل بلغات أخرى، بسبب تغيرات وتكوينات مستحدثة في البنية الاجتماعية والأسرية. لذلك يجب الحفاظ على لغتنا العربية، واتخاذ التدابير اللازمة لتقوية حضورها في المجتمع. وهذه المهمة الجوهرية تبدأ من مخاطبة الطفل بلغته الأم، وتشجيعه على حب العربية، وزرع الإيمان لديه بقيمة هذه اللغة التي تمثّل هويته.

ورأى أن الحرص على تعليم الأطفال لغتهم العربية، يحفظ شخصيتهم الإنسانية والحضارية، ويحفظ ثقافتهم الوطنية وتراثهم العربي الأصيل. وهذا يؤدي إلى تماسك الأسرة ضمن محدد جوهري يجمع بين أفراد الأسرة والمجتمع، ويربط بين أفراد المجتمع ويشعرهم بوحدة تراثهم وماضيهم ومستقبلهم وثقافتهم وحضارتهم. ولا يتوقف تعليم العربية عند حدود المدرسة ومسؤولياتها؛ بل لا بد من استمرار متابعة الأسرة، بغرس قيم العربية في نفوس أبنائها، والحرص على تداولها واستعمالها.

ويشير الدكتور النابودة، إلى أن تراجع العربية ينعكس سلباً على الإنسان والأسرة والمجتمع، ويفقده عنصراً جوهرياً من عناصر هويته، ويحرمه من اللسان المعبّر عن ماضيه وحاضره ومستقبله وقيمه الثقافية والحضارية. لذا فلا بد من إعداد الطالب القادر على مواجهة المستقبل متسلحاً بعناصره الحضارية العلمية والتكنولوجية، ومتمسّكاً بالقيم والثوابت الوطنية ومن أبرزها اللغة العربية. ويورد النابودة، حلولاً لمعالجة المشكلة تتضمن تشجيع المنظومة التعليمية والإعلامية على استعمال العربية ونشرها في أوسع نطاق تداولي، كونها الأداة الحضارية والثقافية للإنسان والمجتمع، واتخاذ التدابير التربوية والتعليمية التي ترسّخ قيم اللغة العربية، والتغلب على صعوبات اكتسابها وتعلّمها، ووضع الخطط العلاجية المتطورة للتغلب على مواطن الضعف في استعمالها، وتقوية تعلّمها ضمن مستوياتها كافة.

وأكد في الختام أن قيادتنا الرشيدة تحرص ضمن رؤيتها على ترسيخ العربية لغة رسمية، تحمل عنوان ثقافتنا وتراثنا وقيمنا وثوابتنا، فلا بد من مشاركتنا جميعاً في ترسيخ عربيتنا قيمة ثابتة في مسيرة نهضتنا وتقدمنا، والحرص دائماً على محاورة أسئلتها ومعالجة التحديات التي تتجدد في مسيرتها وسيرورتها.

الصورة

التركيبة السكانية

أشار الدكتور أحمد المنصوري، رئيس قسم الإعلام والصناعات الإبداعية في جامعة الإمارات، إلى أن مشكلة التركيبة السكانية في الدولة، أسهمت في توسع مشكلة تراجع العربية، لأن المواطنين باتوا أقلية مع غلبة اللغات الأجنبية، حيث باتت الإنجليزية لغة التجارة والاقتصاد والحياة اليومية، على الرغم من القرارات الحكومية التي حاولت حماية العربية، وجعلها لغة تخاطب، فإن كثيراً من المنشآت أهملت ذلك.

وأضاف: في حياتنا اليوم من لا يملك معرفة بالإنجليزية، قد يواجه صعوبة في قضاء احتياجاته اليومية، في ظل الوضع الحالي، فكل ما حولنا ينطق بالإنجليزية، فضلاً عن أن كثيراً من الأسر التي نشأت من جيل الثمانينات والتسعينات الذين درسوا الإنجليزية، يشجعون أبناءهم على التحدث بالإنجليزية، وهنا تكمن الخطورة، خاصة في ظل تحديات تتعلق بالهوية الوطنية والثقافة، خاصة في ظل وجود الخادمات، مكوناً رئيسياً في المنزل، والشعور بالتفاخر والتمدن الذي يعيشه بعضهم، عند مخاطبة الأطفال والخدم بالإنجليزية، وإهمال العربية تماماً.

ورأى الدكتور المنصوري، أن الهوية الوطنية باتت في خطر، في ظل الاهتمام الأوحد بالإنجليزية في المدارس، وحتى الجامعات الوطنية التي أطلقت تخصصات حيوية تدرس كلها بالإنجليزية، وتطلب من الطالب الحصول على معدلات عالية فيها، لذلك فالمنظومة كلها تشجع من حيث لا تدري هذا التوجه، ولا تلتزم بقرارات تشجيع استخدام العربية، ما أفرز خريجين من جيل اليوم لا يستطيعون التواصل بالعربية.

وطرح المنصوري، جملة حلول لإعادة الأمور إلى نصابها، تكمن في معالجة النظام التعليمي أولاً، كونه محوراً أساسياً، عبر إعادة فرض العربية لغة أساسية تتطلب تأسيساً قوياً فيها، عبر إكثار الأنشطة المرتبطة بها في المدرسة والجامعة، وتمكينها متطلباً إلى جانب الإنجليزية، فضلاً عن الاهتمام بمبادرات تساعد على تحقيق تلك الأهداف، كمبادرات القراءة التي تعمل لإعادة التوازن وتعزيز تعامل قطاع الأعمال والإعلام بالعربية، وتعريب التواصل، واهتمام الأسرة حائط صدّ أول، ضد التعدي على اللغة الأم، وإعادة القيمة إليها.

استعادة التوازن

البروفيسورة خولة الكعبي، من قسم الجغرافيا والاستدامة الحضرية بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، أوضحت أن التحدي الجديد الذي يواجه الأسر في دولة الإمارات، هو انخفاض إتقان العربية، مقارنة بالإنجليزية، ويمكن أن يُعزى هذا الانعكاس في تفضيل الإنجليزية، إلى عوامل مختلفة، حيث أدى التوافر الواسع للمحتوى الإنجليزي على التلفزيون والإنترنت، إلى جانب جاذبية الثقافة الشعبية العالمية، إلى دفع الشباب إلى إعطاء الأولوية للإنجليزية في تفاعلاتهم اليومية، وكذلك، قد يسهم الاستخدام المتزايد للغة الإنجليزية في المؤسسات التعليمية، وأماكن العمل، في تقليل التركيز على العربية.

وأضافت: عند معالجة هذه المشكلة، يمكن النظر في كثير من الحلول، أولاً: تعزيز أساس قوي في تعليم اللغة العربية منذ الطفولة المبكرة أمر بالغ الأهمية. ويمكن أن يؤدي تنفيذ برامج جذابة وتفاعلية في تعليم اللغة، إلى جعل العربية أكثر جاذبية. ويمكن أن يساعد تشجيع أفراد الأسرة على التحدث بالعربية في المنزل، على تعزيز المهارات اللغوية.

وترى الكعبي، أنه لاستعادة التوازن، هناك حاجة إلى بذل جهود متضافرة لتعزيز أهمية العربية، ليس وسيلةً للتواصل فقط، لكن لأنها انعكاس للهوية الثقافية. إن دمج العربية في محتوى الوسائط الحديثة والمنصات الرقمية يمكن أن يجعلها أكثر ملاءمة للأجيال الشابة. يمكن للفعاليات الثقافية والورش والمبادرات التي تحتفل بثراء العربية، أن تسهم في تنشيط استخدامها أيضاً.

وحذرت، كذلك، من أنه يمكن أن تمتد الآثار المترتبة على هذا التحول اللغوي إلى النسيج الثقافي للأمة، حيث قد يؤدي ضعف إتقان العربية إلى الانفصال عن التراث والتقاليد. وكذلك، قد يؤثر ذلك في التواصل الفعال مع الأجيال الأكبر سناً وفي السياقات المحلية. ومع ذلك، وعبر اتخاذ تدابير استباقية لإعطاء الأولوية للعربية، مع إعلاء قيمة الإنجليزية لغة عالمية، يمكن تحقيق ثنائية اللغة المتوازنة التي تحافظ على الجذور الثقافية، مع احتضان فرص العالم الحديث.

المحتوى العربي

ورأت الدكتورة دلال الشامسي، الأستاذة المشاركة في قسم علوم الأرض، ومديرة المركز الوطني للمياه والطاقة بجامعة الإمارات، أن من أهم أسباب ضعف العربية لدى الصغار، فقر القنوات التلفزيونية بالمواد المقدمة بالعربية الفصحى كما كان في السابق، حيث كانت برامج الأطفال تقدم بالفصحى التي دققها خبراء اللغة العربية، فكان الأطفال يبنون معاجمهم الذهنية الفصيحة بكم كبير من المفردات الجيدة في عمر صغير، فضلاً عما كانوا يدرسونه من مناهج عربية بالكامل في مواد العلوم والرياضيات والاجتماعيات.

وأضافت: أما اليوم، فقد باتت برامج الأطفال بلهجات مختلفة غير فصيحة، وأصبحت المناهج تقدم بشكل رئيسي بغير اللغة العربية. كما صار منهج العربية يفتقر إلى النظام الذي يقسم الحصص أسبوعياً إلى نحو وتعبير وبلاغة، وإملاء وتحليل شعري، وحفظ للقصائد الغنية بالمفردات مثل قصائد الدكتور سعيد مانع العتيبة، وأحمد شوقي، والشعر الجاهلي الغني. واختلف التأسيس الصحيح لقواعد اللغة، وتحول تأسيساً يفتقر إلى التصنيف الصحيح لعلوم العربية. وكان من المسلّم به في السابق أن يحصل الطالب على حصتين من النحو كل أسبوع، وحصة لأسس الإملاء، وحصة للإثراء اللغوي، وحصة لتفسير وفهم بعض الآيات القرآنية من ناحية لغوية.

وترى الدكتورة دلال الشامسي، أن تأثير المدرسة ووسائل الإعلام له الدور الأكبر في قوة اللغة العربية لدى الجيل السابق، وضعفها عند الجيل الحالي، الذي يعاني انحسار مناهج العربية وضعف تنظيم محتوى حصصها وتوزيعه، حيث يدخل طالب الصف الأول الابتدائي اليوم، ويتوقع منه أن يكون قارئاً يعلم أصول التنوين والإملاء، ويواجه منهجاً مبعثراً.

وأضافت: أما في السابق، فقد كان الطالب يتعلم العربية من الصفر في الصف الأول الابتدائي، وتقسم الدروس بطريقة سهلة، حيث لا يتجاوز الدرس الواحد جملة أو جملتين، يحفظها الطالب ويتعلم أصول إملاء كلماتها في وقت يتناسب مع عمره. وكانت الجمل تنتمي بشكل أساسي للثقافة المحلية وأجواء الطفولة. مثل درس «نورة» الذي كان محتواه «نورة تلبس حذاء أمها»، حيث كانت الدروس متعة ينسخها الطالب، لا ثقلاً على الأهل. وكم من مبدع في اللغة ظهر من منزل أبوين أميين، وكل ذلك كان مصدره المنهج الذي يبدأ خفيفاً ويأخذ الطالب لأفلاك اللغة الواسعة بعد ذلك.

استراتيجية وطنية

ويدعو الدكتور محمد حمدان بن جَرْش السويدي، الكاتب والباحث، إلى رسم استراتيجية وطنية وتفعّل عبرها الخطوات العملية الجادة لتكون لغة الحياة والعمل والتخاطب، وهذا لا يتم إلا بالجهود المتضافرة بين المؤسسات التعليمية والوسائل الإعلامية، ومراكز الدراسات والجامعات والمؤسسات الحكومية والمجامع اللغوية.

وأشار إلى أن الجانب اللغوي، ركن أساسي من أركان الحياة والفكر، واللغة من أهم مقومات حياتنا وكياننا واللغة العربية لها من الميزات اللغوية التي تجعلها قادرة على استيعاب الثقافات والعلوم. وما تملكه من سعة وثراء، وما تملكه من وسائل النمو والتطور، حتى صُنفت على أنها من أغنى لغات العالم، وأدقها تعبيراً. وقد صمدت قروناً طويلة بفضل انفتاحها المستمر على الثقافات والحضارات.

وأضاف: عن جمال العربية وقيمتها، يقول المؤرخ والمفكر الفرنسي إرنست رينان «اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة». وفي عصرنا هذا علينا مواكبة التقدم والانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى، ونتعلمها، لكن دون أن نهمل العربية، وإلا خفتت. والأمن اللغوي مطلب أساسي للحفاظ على حياة اللغة العربية وسلامتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4x77pfwp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"