شعار الحياد الملتبس

00:17 صباحا
قراءة دقيقتين

د. علي محمد فخرو

لو أن أحدهم قال إنني سأكون بعد اليوم في موقف الحياد ما بين فلان، الذي عرف عنه أنه كان شريراً ومؤذياً وانتهازياً في كل تصرفاته تجاه هذا المحايد، وما بين فلان، الذي عرف عنه الهدوء والتعقل والتصرف الحسن تجاه هذا المحايد.. لو أن أحدهم قال ذلك لوصف من قبل الناس بأنه لا يمارس التصرف المعقول العادل المتزن في علاقاته الاجتماعية. إذ كيف يساوي في قربه، أو بعده، بين شخص محبب، وشخص مكروه؟ الأمر نفسه ينطبق على فهم وممارسة شعار الحياد ما بين التكتلات الدولية الذي ترفعه بعض الدول. ولنأخذ مثال شعار الحياد، المطروح مؤخراً بصوت عالٍ في العلاقات، بين هذه الدولة أو تلك، مع كتلة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يتبعها ويؤازرها في كل تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية من جهة، ومع التكتلات الدولية الجديدة التي تضم دولاً تحاول التخلص من الهيمنة الأمريكية الخانقة، وعلى الأخص هيمنة الدولار في شؤون المال، وهيمنة التكنولوجيا في شؤون التواصل الإلكتروني، وهيمنة القوة والتفوق العسكري، من جهة أخرى. كيف يمكن معادلة مقدار دفء وحميمية العلاقة الاستراتيجية المتميزة مع أمريكا وبعض دول أوروبا من جهة، ودول من مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل من جهة أخرى؟

فالكتلة الأمريكية، ومعها دول غربية عدة، لها تاريخ استعماري أسود مع العرب، وغيرهم، تمثل في الإصرار على نهب ثروات الشعوب وتجزئتها، والمساعدة في اغتصاب أرض فلسطين، وتشريد أهلها، وفي التدخل اليومي في كل شؤونها الداخلية، وفي ابتزازها المالي والعسكري الدائم، وفي منعها من الخروج من ضعفها وتخلفها التاريخي بشتى الأساليب.

بينما دول الكتلة الأخرى لم تستعمر قط أرضاً، ولم تبتز قط دولة، ولم تساهم بأية صورة في تخلف العرب وضعفهم، ولا في حماية إسرائيل مثلاً. وكل ما تطلبه هذه الكتلة هي علاقات عادلة وتبادلية في مختلف حقول النشاطات الإنسانية.

من هذا المنطلق فإن شعار الحياد هو خاطئ، وملتبس، ويختلط فيه الحابل والنابل.

بالنسبة إلنيا كعرب، هل نسينا ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها من تدمير تام للعراق، وإرجاعه مئات السنين إلى الوراء، وتدمير واحتلال وتجزئة سوريا، واستمرار محاصرة الشعب السوري وتجويعه، وتمزيق للسودان، واحتلال لليبيا، وتجويع للبنان؟ فما أن تهدأ النيران في بقعة حتى تشتعل في منطقة أخرى، ودائماً يثبت أن لهذه الكتلة، التي تحمل توجهاً تاريخياً لتقسيم هذه الأمة وإضعافها وخلق الفتن فيها وزرع الصراعات في كل بقاعها، اليد الخفية في ما يحدث.

لنعد مرة أخرى إلى قلب الموضوع: إذا كان هذا النوع من الحياد فيما بين الأفراد مستهجناً ومستغرباً، فكيف إذن، بين الشعوب والدول؟

والسؤال الأهم هو: متى ستدرك مؤسستا القمة العربية والجامعة العربية التفكير جدياً في تكوين كتلة مشابهة «للناتو» عربية متناسقة قادرة على أن تحمي أي دولة عربية من الاستباحة، وإذا كان كل ما نراه من محن وآلام ودموع وفواجع طبيعية لا يحرك ساكناً في نفوس المسؤولين عن هاتين المؤسستين القوميتين، فهل وصلنا إلى مرحلة الاستسلام التام لمسرحية التلاعب بأقدارنا من قبل كل من هبّ ودبّ، ومن كل حدب وصوب؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5envpjwn

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"