مئوية هيكل.. سنوات الإشراق

00:23 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

«راضٍ بما أديت من دور في خدمة المهنة، وفي خدمة الوطن، وفي خدمة الأمة. ثم أنني سعيد أن الظروف أتاحت أن أشارك وأعيش سنوات الإشراق في المشروع القومي العربي، الذي قاده ذلك الصديق الحبيب إلى قلبي، والأثير عندي.. جمال عبدالناصر».

 هكذا عبّر الأستاذ محمد حسنين هيكل عن أعمق مكنونات صدره في وصية، كتبها بخط يده وديعة مغلقة عند رفيقة حياته وتكشفت نصوصها الكاملة بحلول مئويته يوم 23 سبتمبر/ أيلول الحالي.

 على مدى رحلته المهنية والسياسية، التي امتدت لأكثر من سبعين عاماً، لم يسبق له استخدام تعبير«سنوات الإشراق» بحمولته الإنسانية والسياسية في وصف الأحلام والتطلعات الكبرى التي حلقت خمسينات وستينات القرن الماضي تحت قيادة عبدالناصر.  لم يكن الطريق معبداً لعالم عربي جديد يسعى للتحرر والوحدة، أو أن يمتلك مصيره ومستقبله، ولا نشأت زعامة عبدالناصر في فراغ تاريخ أو بمحض دعايات.

 «لقد رأيناه رؤية عين لا بخيال رواة السير الشعبية». «عشنا تجربته ولم نستمع إليها كسيرة الظاهر بيبرس». «كان ثائراً عظيماً وإنساناً بديعاً». هكذا وصفه في حديث مسجل لم يكن للنشر.

 في ذكرى رحيل عبدالناصر اقترح «مانشيت» رئيسياً لصحيفة «العربي».. «في الليلة الظلماء يفتقد البدر». لم يكن من طريقته ولا من أسلوبه الميل إلى مثل تلك العبارات، لكنها المشاعر الإنسانية، كما الحنين إلى عصر من المعارك والتحديات حتى تكون مصر في موضعها الذي تستحقه.

 كانت تلك أجمل سنوات حياته وأكثرها تأثيراً في فكره ووجدانه. «الفارق بين العمر والحياة.. العمر عدد وأرقام والحياة كثافة وقيمة»- كما قال في يوليو (تموز) 2005.

 سألته ذات حوار: «هل أعدت اكتشاف عبدالناصر من جديد، بعد كل ما جرى في مصر وعالمها العربي من تحولات وانقلابات على خياراته الرئيسية؟». قال: «لا، فقد كنت أعرف قدر دوره، ما جرى بعده يؤكد ويثبت أنه رجل استثنائي، وما طالعته من وثائق غربية لم تكن متاحة في أيام يوليو تؤكد وتثبت ما تعرضت له تجربته من مؤامرات».

 «تعرف أن التاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة موجودة فيه». «وتعرف أن بعض الرجال يتحولون إلى عقد مستحكمة تقلق وتطارد من يخلفونهم».

 شاءت أقداره أن يعاصر عهوداً متوالية، وأن يكون طرفاً رئيسياً في صناعة القرار، أو الجدل من حوله، ولعله - دون أن يقصد أو يطلب- تحوّل إلى عقدة مستحكمة ثانية بتصور أنه «مخرج ثورة ٢٣ يوليو»- والتعبير للرئيس «أنور السادات».

 لم تكن ثورة يوليو شريطاً سينمائياً يبحث عمن يكتب مشاهده ويخرجها. «هذا هزل في رؤية التاريخ غير جدير بأي اعتبار».  اقترب من زعيم ثورة يوليو، قلبه وفكره، كما لم يقترب أحد آخر. بتعبير عبدالناصر: «إنه الوحيد الذي يفهمني بسرعة» على ما روى لي صديقي الراحل الدكتور خالد عبدالناصر. لم تعن له تجربة يوليو «دروشة» في الماضي بقدر ما كانت إلهاماً للمستقبل، فكل ما له قيمة يبقى، وأية أخطاء شابتها لا تسحب منها جدارتها حين غيرت وأحقيتها حين واجهت.

 «جمال عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية في التاريخ المصري الحديث». «أنتمي إلى المشروع القومي العربي.. وأنا ناصري بهذا المعنى وحده».

 كانت قضيته المشروع باتساع حركة فعله، لا الأيديولوجيا بانغلاقها على مقولاتها.

لم يكن معنياً بالتصنيف الأيديولوجي بقدر ما كان متنبهاً إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئاً له قيمة أو فكرة لها أثر.  قال له الدكتور عبدالوهاب المسيري: «لست ناصرياً». أجابه: «ليس مهماً». الواقعة جرت في أواخر ستينات القرن الماضي عندما عرض وزير الإعلام محمد حسنين هيكل على الباحث الشاب الانضمام إلى دائرته الاستشارية.

 حسب رواية منشورة ل«المسيري» فإنه سأله عن سر علاقته بعبدالناصر ف«إذا به يتحول من كاتب صحفي إلى شاعر غنائي، كيف أنه بالنسبة لمصر هو المستقبل، وهو التنمية المستقلة، وكيف أن العروبة من الممكن أن تعطي لهذه المنطقة هوية حضارية وثقلاً استراتيجياً يجعلها تواجه عالم التكتلات الكبرى».

 لم يمنع انحيازه للمشروع من انتقاداته للنظام.

 الأول، يمتد بالتجديد في الزمن.. والثاني، تنقضي صلاحياته باختلاف زمنه. سألته: «لماذا يعتقد بعض معاصريك أنك أقرب إلى اليمين؟». قال: «كانوا يظنون أن تجربتي في أخبار اليوم أثّرت في تكويني الفكري والسياسي».

«كيف أكون يمينياً وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطني وبيان ٣٠ مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التي أعلن فيها عبدالناصر التأميمات».

«أنت تعرف أنني لا أكتب شيئاً لا أقتنع به».

 «لا تنس أنني أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة ودولة المخابرات لإدانة أسلوب في الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها».

«ثم إن انتمائي العروبي هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران». في لحظة الهزيمة صاغ مصطلح «النكسة»، معتقداً أنه يساعد على النهوض من جديد، بعد إعادة بناء القوات المسلحة، فالهزيمة مؤقتة والنصر ممكن.

 كانت تلك هي الروح العامة التي استدعت الهمة من قلب الهزيمة لاستعادة «سنوات الإشراق»، لكن الذين يناهضون المشروع وتطويره في عوالم جديدة يسعون بكل الطرق ألا يكون إشراق الأمل ممكناً مرة أخرى.. وهذا صلب الصراع على المستقبل، كما كان يرى «صحفي القرن».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/64xhhprs

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"