التصنيع يصنع الفارق

21:24 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

تثبت الأحداث المتسارعة، الجارية في دواليب الاقتصادات الوطنية، بطاقاتها الإنتاجية العابرة للحدود، خصوصاً في الظرف الدقيق الذي تجتازه مواد العلاقات الاقتصادية الدولية، لاسيما قطاعات التجارة والمال والاستثمار العابر للحدود، وجود رابطة متينة بين القاعدة السلعية العريضة وبين قيمة النقد الوطني للدولة المعنية. وفي حين تنحو النظرية الاقتصادية السائدة في الأكاديميا والممارسة في الغرب الرأسمالي، نحو تحجيم أهمية التصنيع في الاقتصاد المعاصر، وتغليب أهمية ودور الاقتصاد الورقي والخدمي في «تثوير» النمو الإجمالي، متجسداً في الأرباح الضخمة للشركات العاملة في هذه القطاعات، فإن التجربة الصينية، تثبت يوماً بعد آخر أن التصنيع هو الذي يصنع الفارق، سواء بالنسبة للنمو المستدام أو بالنسبة لتأمين ظهر العملة الوطنية.

فعندما لا يكون لدى الدولة (أية دولة) قطاع تصنيع قوي ينتج منتجات ذات قيمة استعمالية (وبالتالي قيمة سوقية تداولية)، فإن عملتها تغدو مع مرور الوقت وانكشاف ميزانها التجاري (تخطي قيمة وارداتها لقيمة صادراتها)، لا تساوي الكثير. وقد ذهب تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للصحفيين يوم الجمعة 5 أيار/مايو 2023 على هامش مشاركته في اجتماع مجلس وزراء خارجية منظمة شنغهاي للتعاون الذي عقد في مدينة جوا الهندية، لعلاقة التصنيع بقيمة العملة. قال لافروف: «بالنسبة للروبية الهندية، هذه مشكلة. لقد جمعنا مليارات الروبيات في حسابات البنوك الهندية، لكن لاستخدام هذه الأموال، يجب تحويلها إلى عملة أخرى، وهذا الأمر قيد المناقشة الآن مع الحكومة الهندية».

لماذا؟ لأنه ليس هناك الكثير مما يمكن شراؤه بالروبية الهندية. على عكس مراكمة روسيا للكثير من اليوان الصيني، الذي يمكن استخدامه دائماً لشراء البضائع الصينية. فهناك فجوة ضخمة في ميزان التبادل التجاري بين البلدين، حيث تصدر الهند إلى روسيا بضائع بقيمة 4 مليارات دولار سنوياً، بينما تستورد من روسيا بضائع بقيمة 40 مليار دولار. وهذا درس للهند بطبيعة الحال كي تتعلم من جارتها، مصنع العالم: الصين. ففي واقع الحال، التصنيع = نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وليس الاسمي (Real – not Nominal – GDP). في حين أن الاقتصاد الزغبي “Fluffy economy” أو الاقتصاد الضحل “Shallow economy” ( القائم على الخدمات والتجارة الداخلية المعتمدة تماماً على خطوط إمداد الأسواق الخارجية)، له حدود وعرة للنمو ومراكمة قيمة إجمالي الناتج المحلي، وبالتالي حصة الفرد الاسمية فيه. وهذا ما يجب أن تعيه النخب في البلدان النامية. كانت أمريكا الأولى في العالم في مجال التصنيع لمدة 100 عام. ولأنها ضحت بالتصنيع في سبيل قطاعات المال والصيرفة والخدمات المعظمة للأرباح، فقد وضعت نفسها اليوم في مشاكل لا أول لها ولا آخر.

فالهند، وهي مثال نموذجي للدول النامية الساعية للتحول إلى قوة عالمية عظمى، مقارنة مع جارتها الصين، بحسب رسوم بيانية من مقالة منشورة في مجلة فورين بوليسي، تتخلف عن الصين في جميع التقنيات الحيوية و/أو الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، والمركبات الكهربائية، والتكنولوجيا الحيوية، وأشباه الموصلات، وفي مجال الإنفاق على البحث والتطوير “R&D” (تتفوق الصين بواقع 16 مرة على الهند). وطوال عقد من الزمن (من 2014 إلى 2023)، تكاد الصادرات السلعية الهندية تتجمد في مكانها، فكانت في عام 2014، 312 مليار دولار، وفي 2023، 314 مليار دولار (باستثناء النفط). لكأنه عقد من النمو المتوقف نتيجة عدم توسع الطاقة التصنيعية. وإذا استثنينا البرمجيات، فإن الهند لديها قاعدة سلعية غير عريضة للبيع. حتى المنتجات الزراعية أصبحت صعبة التصدير نتيجة لوجود مشاكل في التنظيم والخدمات اللوجستية ومراقبة الجودة، وتأمين الاكتفاء الذاتي على حساب التصدير، استجابة لظروف السوق العالمية. وكذلك الحال بالنسبة للمأكولات البحرية والسلع الأخرى القابلة للتلف بسبب الافتقار إلى سلاسل تبريد معتمدة.

قد يُرجع البعض سبب سعي الروس لتحويل حيازاتهم من الروبية الهندية إلى عملة أخرى، إلى ضعف العملة الهندية وليس لمحدودية القاعدة السلعية للاقتصاد الهندي. فقد صدرت الهند حتى الآن ما قيمته حوالي 750 مليار دولار من السلع والخدمات. لكن هذا غير صحيح، فالهند تعاني عجزاً تجارياً قدره 260 مليار دولار من السلع، ولا تساعد صادرات الهند من الخدمات (340 مليار دولار) روسيا، لأن معظمها عبارة مداخيل العمالة الهندية لدى الشركات الأمريكية. وحتى بالنسبة للسلع، فإن المنتجات البترولية هي التي تتصدر صادرات الهند. وهذا ما يجب أن يحفز قيادات البلدان النامية، ومنها الهند، لتعظيم الاستثمار في مجال البحث والتطوير والتصنيع في العقدين المقبلين.

* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2yd4ka6h

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"