التحكيم ورهانات السلم والتنمية

00:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

تعقّدت النزاعات في الوقت الراهن، من حيث أسبابها وحدودها والعوامل المغذية لها، وأصبح من الصّعب الفصل فيها بين نزاعات داخلية وأخرى خارجية، كما يمكن أن تتفرع إلى نزاعات وأزمات رئيسية وأخرى فرعية، وهو ما يقتضي الاعتماد على تطوير الوسائل لتدبيرها بقدر من النجاعة والفاعلية.

ووعياً بخطورة الأزمات والنزاعات بأصنافها المختلفة، طرح المشرع الوطني والدولي عدداً متبايناً من السبل لتنفيذها، انسجاماً مع تباين وتعقّد هذه المحطات الضاغطة، وحتى يتيح اختيار الممكن والملائم منها، بما يتناسب مع طبيعة النزاع أو الأزمة، ومع خلفياتهما وحدتهما ونطاقهما.

تتباين السبل الكفيلة بتسوية النزاعات والأزمات بين المفاوضات والتوفيق والوساطة والتحقيق والمساعي الحميدة، إلى جانب عرض النزاعات على المنظمات والهيئات المختلفة، إضافة إلى سبل قضائية متصلة بعرض الأزمات على القضاء أو هيئات التحكيم (المادة 33 من الميثاق الأممي).

ويحتل هذا الأخير (التحكيم) مكانة مهمة ضمن هذه الآليات، وهو يحيل إلى تلك الوسيلة القانونية المتصلة بتسوية النزاعات وتدبير الأزمات، التي تقوم على فحص والنّظر في النزاع بكامله أو بعض جوانبه، وفي جذوره من قبل شخص أو هيئة. وعلى عكس سلطة الوسيط أو لجنة التوفيق الذي يقوم باقتراح الحلول، فإن سلطة الحكم كسلطة القاضي، بما يعطي لقراراته صفة الإلزام.

ويلجأ المتنازعون إلى هذه الآلية بشكل اختياري أو بناء على تعهد مسبق، بموجب اتفاقية ثنائية أو جماعية، مع إقرارهم المسبق بالتزامهم بتنفيذ القرار التحكيمي الذي غالباً ما يكون نهائياً، ويحدّد اتفاق الإحالة على التحكيم موضوع النزاع، والمسائل التي تفصل فيها هيئة التحكيم، وكيفية تكوين هذه الهيئة، والقواعد التي تؤطر العملية.

يعد التحكيم من ضمن أقدم السبل الدولية لتدبير النزاعات والأزمات حيث ظهر عند اليونان، والرومان، والمسلمين، وقد شهد تطوراً كبيراً مع تأسيس المحكمة الدائمة للتحكيم عام 1899 بموجب اتفاقية لاهاي.

وتتمحور مجالات التحكيم حول تفسير المعاهدات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف، ومنازعات الحدود، والقضايا المتصلة بمخالفة قواعد القانون الدولي، والمنازعات المتعلقة بالاستثمار، وبتأميم أموال الدولة في الخارج.

ومن هذا المنطلق، أضحى اللجوء إليه أمراً مألوفاً في المجالات القانونية والاقتصادية والتجارية، والبيئية، فهو آلية داعمة للاستثمار وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية وتشبيكها، وآلية لتعزيز السلم والأمن الدوليين.

وقد زاد من أهميته إحداث هيئات ومؤسسات دولية دائمة متخصصة في المجال (التحكيم)، كما أن العديد من المعاهدات الثنائية والجماعية (في مجالات تجارية ودبلوماسية وتقنية..) أصبحت تؤكد على اللجوء إلى هذه الآلية في حال نشوب نزاعات، وعياً بأهميته في ترسيخ السلم، وتعزيز جهود التنمية الإنسانية.

وعلاوة على الاهتمام الذي حظي به على المستوى العملي (القطاعان العام والخاص، وطنياً ودولياً)، أصبح التحكيم محطّ اهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية (كتابات واجتهادات).

تبرز الممارسات على المستويين الوطني والدولي، أن التحكيم أصبح يوفر آلية ناجعة لحل الأزمات، فقد أثبت فاعليته في تنفيذ العديد من الخلافات النزاعات الاقتصادية والتجارية والسياسية، ونذكر في هذا السياق: قرار التحكيم الصادر عام 1958 بصدد النزاع بين شركة «أرامكو» والمملكة العربية السعودية، والقرار التحكيمي لعام 1977 المتعلق بالنزاع بين شركة «كلزيتك» والحكومة الليبية في مجال النفط، والقرار التحكيمي لعام 1988 المتعلق بأحقية مصر بمدينة طابا التي كانت تحتلها إسرائيل، ثم القرار التحكيمي لعام 1998 المتصل بأحقية اليمن في جزر «حنيش الكبرى» في سياق نزاعها مع إريتريا..

رغم أهمية التحكيم، فإن الكثير من الفاعلين يجهلون أهميته، ما يتطلب التوعية بمردوديته ونجاعته، كما أن هناك صعوبات ترافق تنفيذ قراراته في بعض الأحيان، بفعل غياب تدابير كفيلة بترسيخ إلزاميته، وهو ما يفرض توخي حسن النية بين الأطراف المتنازعة، إضافة إلى عقد اتفاقيات ترسخ إلزامية قراراته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mwzu6h7f

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"