الاتحاد الأوروبي.. و«ثورة المزارعين»

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

بعد الضربات التي تلقاها الاتحاد الأوروبي مع تصاعد المد اليميني والانسحاب البريطاني من مؤسساته (الاتحاد)، يبدو أن مشاكل هذا التكتل الإقليمي الواعد الذي حقق مجموعة من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على امتداد أكثر من نصف قرن، لم تنته بعد.

فقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات اليومية التي يقودها المزارعون في عدد من البلدان الأوروبية، خلال الأسابيع الأخيرة، مما مثّل تحدياً أمام عدد من الدول وكذا هيئات الاتحاد الأوربي التي تجد نفسها أمام منعطف صعب يتطلب اتخاذ تدابير وسياسات تحول دون تطور الأمور نحو الأسوأ.

لا يمكن فصل هذه التطورات، عن الكثير من المحطات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي مرت بها أوروبا خلال السنوات الأخيرة، بدءاً بالأزمة المالية لعام 2008 وتداعياتها الاجتماعية القاسية، ومروراً بالانعكاسات الخطرة التي خلفتها جائحة كورونا، ثم وصولاً إلى الآثار الوخيمة التي تمخضت عن الحرب الروسية الجارية في أوكرانيا، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط وعدد من المواد الصناعية.

وتحت ضغط هذه الظروف، قامت الدول الأوروبية بسن مجموعة من التدابير من قبيل السعي إلى تعزيز استيراد اللحوم والمنتجات الفلاحية من بلدان أمريكا اللاتينية ما أثر في الأسعار، وضمن خطوات تضامنية مع أوكرانيا وكرد فعل على العمليات العسكرية الروسية التي تستهدفها، قام الاتحاد الأوروبي بتعليق تطبيق الرسوم الجمركية على الواردات الأوكرانية من مختلف المواد الفلاحية كالحبوب التي تراجع ثمنها داخل أوروبا.

ففي عام 2021 سن الاتحاد مجموعة من الإجراءات المتعلقة بالمحافظة على التنوع البيولوجي وتعزيز الأمن الغذائي، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2023، وهي التدابير التي تعني حوالي ستة ملايين مزارع أوروبي، وتنحو إلى تحقيق استدامة الأنشطة الفلاحية، بالحد من عدد المواشي، والتقليص من استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية، والتقليل من المساحات المخصصة للزراعة داخل أوروبا.

ورغم أن الاتحاد يرصد حوالي 30 في المئة من ميزانيته العامة للقطاع الفلاحي، توزع على البلدان الأوروبية بنسب مختلفة، فقد أصبح يربطها باحترام سياساته الزراعية، المتصلة في مجملها بتبني أنشطة فلاحية إيكولوجية.

وأمام هذه المعضلات، الناجمة عن ارتفاع الأسعار وفرض مزيد من الضرائب، تشير المعطيات الإحصائية إلى أن دخل المزارعين في عدد من البلدان الأوروبية كفرنسا وألمانيا، شهد تراجعات ملحوظة.

وعموماً، خلّفت هذه السياسات التي تزامنت مع ظروف داخلية وإقليمية ضاغطة مرتبطة في جزء مهم منها بتقديم الدعم الاقتصادي والمالي لأوكرانيا، مجموعة من الانعكاسات كانتشار الفقر والبطالة والتي مست فئات اجتماعية واسعة داخل أوروبا، بعدما حدث ارتفاع ملحوظ في تكاليف الإنتاج.

وأمام غياب حل جذري واستراتيجي، بدأت احتجاجات الفلاحين في هولندا عام 2019 كرد على هذه السياسات الأوروبية، قبل أن ينتقل صداها إلى عدد من البلدان الأوروبية، كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبولونيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وهنغاريا، مطالبين فيها بإعادة النظر في السياسات الزراعية الأوروبية المشتركة، وبإلغاء الإجراءات البيئية المعتمدة، وبخاصة «الصفقة الخضراء» التي لا تخلو من تأثيرات سلبية في المحاصيل الزراعية.

وقد وصلت حدة غضب المزارعين في فرنسا إلى مستوى إلقاء النفايات الفلاحية وأكوام التبن أمام مباني البلديات والمتاجر والمطاعم. وهو ما أدى إلى اعتقال عدد من المحتجين، في سياق المحافظة على النظام العام؛ بناء على أمر من وزارة الداخلية.

وفي الوقت التي استهدف فيه مزارعون الحدود مع أوكرانيا، واكتسح آخرون بجراراتهم عدداً من المدن الأوروبية، هدّد محتجون في مناطق أخرى بتعطيل الخدمات التجارية بالموانئ والطرقات ومختلف المراكز الاقتصادية.

وقد تبنّت الكثير من النقابات الأوروبية التي تمثل فئة المزارعين مطالبهم، وعبرت عن عدم رضاها عن ردود فعل المسؤولين التي اتخذت طابعاً من الصرامة، ورفضت التدابير الحكومية المعتمدة، مع التأكيد على استمرار الاحتجاجات.

لم تخف الكثير من الحكومات الأوروبية تخوفاتها من تطور الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه، بما قد يعصف بالمشهد السياسي في أوروبا، وبخاصة مع إمكانية استغلال الوضع الراهن من قبل التيارات اليمينية، بما قد يعزز مكانة وحضور هذه الأخيرة.

وهكذا زادت الضغوطات أيضاً على الاتحاد الأوربي، لدفعه نحو اعتماد سياسات تدعم القطاعات المتضررة، وخصوصاً بعد تبني إصلاحات متصلة بالتخفيف من وطأة انبعاثات النيتروجين، والتقليل من استخدام المبيدات المضرة بالبيئة. ولذلك بدأت بعض الحكومات تلين من مواقفها، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا، فيما أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيطلق حواراً استراتيجياً مع مختلف الهيئات الفلاحية الأوروبية والمنظمات غير الحكومية ذات الصلة، خلال منتصف العام الجاري، في سياق الاستجابة لبعض المطالب والحد من حالة الاحتقان الحالية.

وفي هذا السياق، أعلنت المفوضية الأوروبية عن طرح خطط تعزز حماية المزارعين من التأثيرات السلبية التي أحدثتها الصادرات الأوكرانية نحو الدول الأوربية، والترخيص لعدد من الفلاحين الذين أجبروا على عدم زرع بعض الأراضي لدواع بيئية، والتأكيد على أنها (المفوضية) في نقاش مستمر مع السوق المشتركة لأمريكا اللاتينية لجعل مصالح الاتحاد ودوله حاضرة ضمن أي اتفاق فلاحي مستقبلي مع هذا الشريك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bxfcpmvs

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"