فاقد الشيء.. أول من يعطيه

00:31 صباحا
قراءة دقيقتين

محمد القبيسي

قيل على لسان أحدهم: «فاقد الشيء.. لا يعطيه»، وتوارثنا تلك المقولة جيلاً بعد جيل، كما نتوارث العديد من حكم وأمثال الأقدمين التي نغلّفها بهالة من القدسية، ونتعامل معها وكأنها دساتير مطلقة لا تخيب. غير أن الواقع يروي لنا قصصاً تُخالف كثيراً ما توارثناه وأحطناه برداء المطلق.

قامت إحدى قنوات التجارب الاجتماعية على «يوتيوب» بعمل تجربة اجتماعية لقياس مدى العطاء عند الناس، فشرع ممثل يتظاهر بالجوع ويسأل كل من يراه ممَّن يتناولون الطعام أن يعطوه جزءاً صغيراً مَّما يأكلون؛ كي يسدَّ جوعه.

فكان الأشخاص الذين تبدو عليهم سعة العيش يرفضون طلبه، في حين أن شاباً فقيراً بلا مأوى يجلس على ناصية الطريق وافق على مشاركته وجبته بكل محبة ورحابة صدر، بعد أن قام ممثل آخر من الفريق ذاته بتقديمها لذاك الشاب الفقير قبل مجيء الممثل الرئيسي بعشرين دقيقة.

وفي موقف شبيه قام شاب بإعطاء 100 دولار لرجل فقير مترقّباً ما سيفعله بها، فما كان من الرجل إلَّا أن اشترى بذاك المبلغ طعاماً لفقراء مثله، رغم أنه لا يملك سوى هذه الورقة النقدية وهو في حاجة شديدة إليها، فأين هؤلاء من هذه المقولة: فاقد الشيء لا يعطيه؟!

إن فاقد الشيء قد يكون أول من يعطيه؛ لأنه الوحيد الذي يعرف ألم الحرمان ومرارة العيش دونه، ما يجعله قادراً على استشعار أحاسيس الآخرين وحاجاتهم، وبذل ما في استطاعته؛ كي لا يتعرَّضوا للمعاناة ذاتها التي ذاقها جرَّاء ما فقده.

إنك لواجد فقراء كان البرد لحافهم والجوع رفيق دربهم، فلمَّا أصبحوا أغنياء صاروا أكرم الناس وأكثرهم عطفاً على الفقراء، ولا غرابة أن تجد رجلاً فقد حنان الأب في صغره أحنَّ الآباء على صغاره؛ لأنه أكثر من يعلم كم يحتاج الطفل إلى حنان، وأمّاً تدافع عن حق بناتها في التعليم وهي التي حُرمت في صغرها من إتمام تعليمها؛ بسبب سوء الأحوال المادية أو جهل والديها بأهمية العلم واكتساب المعرفة.

إن الحياة جوهرها العطاء، وما تلك الأمثال المثيرة لليأس سوى كلمات جوفاء يُراد بها العبث بالعقول واتخاذ أعذار لامتناع البعض منَّا عن العطاء، وجعل المرء ورقة في مهب الريح، في حين أن الإنسان هو الذي يرسم مصيره ويقرّر ما يفعل وكيف يعيش، لا ماضيه وظروف حياته السابقة. فأعطوا وإن لم تُعطَوا، وقدّموا من رحم الفَقْد سخاءً وكرماً بلا حدود.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2xfrb247

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"