خفة المعرفة

00:53 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تتسم التكنولوجيا الحديثة عموماً، ومواقع التواصل على وجه الخصوص، بأنها تتعامل مع الفكر بخفة منقطعة النظير، حيث نجد مقولات واقتباسات وعبارات المفكرين والفلاسفة تغزو تلك المواقع. والمهم هنا ليس في درجة صحة تلك المقولات، ولكن الأهم يتمثل في الهدف من إبرازها، والذي يتمثل بالدرجة الأولى بالرغبة في إظهار الشغف بالفكر أو الفلسفة أو منح المتابع شعوراً بأنه قارئ أو يمتلك درجة ما من الثقافة أو المعرفة، والحقيقة أن ذلك الاقتباس يمنح متابعه إحساساً أكثر خطورة من ذلك، فيكفي مثلاً أن يقرأ عبارة عن تشاؤمية شوبنهاور حتى يكون قد تعرف إلى مجمل فلسفته، وبالتالي لا حاجة إلى قراءة أعماله.

والملاحظ كذلك أن العالم الواقعي الحقيقي تكثر فيه الآن عدة دور نشر تتوجه إلى الجمهور نفسه، فبتنا نشهد العديد من الإصدارات التي تحتوي على تلك الاقتباسات أو تقدم الفلسفة بصورة مخلة تتناقض من فكرة الفلسفة في حد ذاتها، وهي تنشر تلك الجمل والاقتباسات تحت مسمى مراوغ، وهو «التبسيط» أو مفهوم أكثر مراوغة ويتمثل في أن «الفلسفة للجميع»، أو أن الفكر ليس حكراً على أحد، والمقارنة بين تلك الإصدارات ونظائرها في مراحل سابقة، تكشف ضحالة ما تشهده ساحتنا حالياً.

إن تبسيط الثقافة أو الفكر مر بمراحل عديدة، ففي حقب سابقة قديمة كانت هناك الشروح والحواشي، ولم تكن تبسيطاً بقدر ما كانت عمليات تحليلية وتفسيرية للنصوص الكبرى تقربها من القارئ، وربما تضيف إليها، وهناك بعض الشروح التي كادت أن تتحول إلى نصوص مستقلة، لا علاقة لها بالنص الذي تعلق عليه، وكثيراً ما وصف المؤرخون المراحل التي تنتشر فيها الشروح والحواشي بمراحل انحطاط فكري وحضاري، فمهما بلغ الشرح من القوة والإضافة، فإنه لا يرقى إلى درجة الإبداع والابتكار.

في بدايات النهضة الحديثة نشأت فكرة ضرورة تعريف القارئ العربي بأحدث المذاهب والتيارات الفلسفية والعلمية الغربية، فنشأت المجلات المتخصصة في ذلك، وكتب فيها أعلام نهضتنا الحديثة، وبرغم أن أحد أبرز مفكرينا، وهو محمد عابد الجابري علّق بسلبية على تلك الحقبة، ووصفها بثقافة «المقتطفات»، إلا أن المستوى المعرفي لتلك المرحلة كان مميزاً، وهناك من يرى أنها كانت أبرز النقاط المضيئة في تاريخنا الحديث.

إذن نحن أمام مرحلتين توعّك فيهما الإبداع، فاتجه الكتّاب ومن يهتم بالفكر مرة إلى الشروح والحواشي ومرة إلى المقتطفات، وفي المرتين، وبرغم النقد الذي صاحبهما، كانت هناك بعض الأعمال التي توضع الآن في خانة الكلاسيكيات. أما الآن فنحن نعيش مرحلة يصعب توصيفها وتسميتها، هل هي مرحلة الاقتباس.. الجملة العابرة.. المقولة..إلخ، وهي في الوقت نفسه مرحلة تتسم بالسرعة الفائقة، بمعنى أن المقولة حتى وإن كانت بالغة الأهمية وتمتلك فضاءات متسعة من الدلالة، فهي لا تبقى ولا تؤثر ولا تؤسس لشيء جديد، والأهم من ذلك أنها لا تعوض بحال من الأحوال عن قراءة النصوص الأصلية كاملة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2d3bws33

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"