الصور الذهنية.. صناعة ثقيلة

01:18 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تطورت صناعة الصور الذهنية عند البشر، ومرت بالكثير من المراحل، بداية من الرحالة قديماً، الذين كانوا يسافرون إلى البلاد البعيدة، فيكتبون ملاحظاتهم عن عاداتها وتقاليدها، ويدلون بوجهة نظرهم في مدى طبيعية أو غرائبية هذه العادات، وتطورت تلك الكتابات وأصبح لها رؤى واستراتيجيات، وتأسست حولها بعد ذلك مراكز وأقسام جامعية، وهيمنت عليها رؤى سياسية وأيديولوجية. من هنا نفهم نشأة علوم مثل الاستشراق، وأقسام من علوم أخرى مثل الأنثربولوجيا والبعثات الأثرية، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل دخلت السينما على الخط ولحقت بها مختلف وسائل الإعلام، وتحوّل عمل الرحالة البسيط الذي يدون ما يراه لحظة بلحظة بطريقة أدبية، لينقله إلى أهل بلده إلى فضاء متكامل لا نهاية له.

الملاحظة الأولى: التي يمكن الخروج بها من تاريخ صناعة الصور الذهنية، أن هذه الصناعة لم تتحول إلى شكل مؤسسي، إلا في الثقافة الغربية، حتى في عز صعود الحضارات الأخرى، مثل الحضارة العربية الإسلامية.

لم يكن هناك أكثر من انطباعات بعض الرحالة حول الشعوب الأخرى، انطباعات توقفت أمام بعض العادات واستهجنت بعض الممارسات، ورفضت بعض السلوكيات التي رآها الرحالة المسلم لا تتفق مع الفطرة الإنسانية البسيطة، أي أن الآخرين لم يتحولوا في ذهن هذا الرحالة إلى موضوع للدراسة، وهو ما حدث في الغرب ربما منذ تلك الصور التي رسمها ماركو بولو عن الآخرين، وتطورت الصناعة مع الاستعمار واشتقاق مصطلح الأنا- الآخر، فتحول العالم إلى فريقين: أوروبا والآخرين. ودرس المستشرق الغربي بانتظام علوم أولئك الآخرين، ورسم الفنان الغربي آلاف اللوحات تصوّر حياتهم، وكان الهدف إظهار غرائبية ثقافة الشرق أو أنه أدنى حضارياً وثقافياً على الأقل، أما في العالم الجديد، فتمثل الهدف في إبراز أن السكان الأصليين لا يتمتعون بكامل الأهلية الإنسانية، ومن ثم لا مشكلة في التخلص منهم.

الملاحظة الثانية: أن كل مرحلة من مراحل صناعة الصور الذهنية استفادت من المرحلة التي سبقتها، فصورة العربي لم تتغير منذ كتابات الرحالة الغربيين الأوائل، وحتى السينما في القرن الماضي.

الملاحظة الثالثة: أن الوضع السابق هو المهيمن على تلك التكنولوجيا، وكأن تلك الصور والأفكار التي رسمها الغرب للآخرين مؤبدة، ويبدو أن الآخرين لا يدركون أبعاد هذا الوضع حتى الآن، ولا يهتمون باستخدام الأدوات الكونية الحديثة في إنتاج صور جديدة عن أنفسهم، تتناقض مع تلك الصور السلبية القديمة، ولا يعنيهم حتى أن يدرسوا آليات إنتاج الصور في أحدث طبعاتها، ولا يدركون خطورة تأثيرها.

منذ أكثر من عقد، أكد المفكر الراحل جورج طرابيشي، أن شبكة الإنترنت منصة مثالية، لدراسة صور تنتجها مختلف الجماعات عن نفسها والآخرين، ولم تكن مواقع التواصل آنذاك قد اكتسبت كل هذا الزخم والقوة، ويتم توظيفها في إنتاج رؤى وأفكار عن العالم بأكمله تحتاج إلى مزيد من التأمل والدراسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2sm7keku

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"