الشارقة: جاكاتي الشيخ
لا تزال إشبيلية معروفة حتى الآن بأنها إحدى أهم شواهد عظمة الحضارة الإسلامية في أوروبا، فقد كانت مدينة صغيرة في الأصل، تأسست من طرف الأيبيريين جنوب إسبانيا باسم «أشبالي»، ومعناه (المدينة المنبسطة)، ثم حَوَّره الرومان بعد دخولها إلى اسم «أشباليس»، ليعرّب المسلمون هذا الاسم إلى «إشبيلية» بعد فتحها، ويجعلوا منها أحد أهم مراكزهم الحضارية، وتشتهر بأنها مدينة الأدب، والفن، والطرب، في الأندلس المسلمة.
كانت المدينة قبل دخول المسلمين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، عاصمة لدولة القوط الغربيين، قبل أن ينقل الملك ليوفخلدو العاصمة إلى طليطلة سنة 567م، ولم يتم الاستيلاء عليها من طرف المسلمين في حملتهم الأولى في الأندلس، التي قادها طارق بن زياد، ولكنهم فتحوها في الحملة الثانية التي قادها موسى بن نصير الأموي، سنة (94هـ - 713م)، واختارها لتكون عاصمة للأندلس، ليتم تحويل العاصمة إلى مدينة قرطبة بعد تولي الحر بن عبد الرحمن الثقفي الأندلس عام 98هـ.
أدى نقل العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة إلى نزوح الكثير من المسلمين إلى العاصمة الجديدة، ليصبح المسلمون قلة فيها، وبعد ربع قرن من ذلك التحول، أرسلت الخلافة الأموية فرقة من الجيش الأموي للإقامة في إشبيلية وحماية سواحلها، ليبدأ تدفق القبائل العربية إلى المدينة ابتداء من عام 742م.
*ازدهار
وبعد نجاح صقر قريش عبد الرحمن الداخل في تأسيس الدولة الأموية الغربية في الأندلس، شهدت إشبيلية أزهى عصورها، حيث عني بها الأمراء والخلفاء المسلمون، وازدهرت فيها الحياة الثقافية، والاجتماعية والاقتصادية، فأنشأ الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) مسجداً جامعاً بإشبيلية في سنة 829م، ولكن النورمانديين حرقوه وخربوا بعض قصور المدينة، في هجومهم سنة 884م، ليقيم المسلمون حولها سوراً، ويؤسسوا بفيها مصنعا للسفن الحربية.
شهدت إشبيلية بعد ذلك ثورة ناجحة لبني الحجاج، وبني خلدون، ولكن عبد الرحمن بن محمد المعروف، بعبد الرحمن الثالث (الناصر) نجح في إخضاعهم، ووحّد الأندلس، ليستولي المعتمد بن عباد على المدينة، بعد سقوط دولة الخلافة في قرطبة، حيث كان شاعراً ومثقفاً كبيراً، فأصبحت المدينة في حقبته أهم مدن الأندلس، وشهدت نهضة كبيرة، فازدهرت الحركة الثقافية، بانتعاش الأدب والفنون المختلفة، وصارت إشبيلية قبلة للأدباء والفنانين والمهندسين، ولكن دولة بني عباد لم تعمر طويلاً، إذ سرعان ما انهارت مثل بقية مدن الأندلس التي كانت تتساقط واحدة تلو الأخرى في أيدي القشتاليين، ليدخل المرابطون الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة الشهيرة، ويهزموا جيش قشتالة، ويعزلوا ملوك الطوائف بعد اكتشاف تواطئهم مع القشتاليين، فاستولوا على إشبيلية وهدموا قصور بني عبّاد، وجردوا المعتمد من مُلكه، ونفوه إلى المغرب التي مات فيها فقيراً، ليحكمها الموحدون، ويختارها خليفتهم عبد المؤمن بن علي، عاصمة لملكه في الأندلس، فعادت إشبيلية من جديد لتوهُّجها الحضاري، إذ تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة، وكان محبّاً للفنون والآداب رغم ميوله الحربية، فبنى في إشبيلية القصور والمساجد، وطوّر فيها فن العمارة، وتبعه في ذلك بعده ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور.
*آثار
حين أراد يعقوب المنصور أن يخلد انتصاره التاريخي على جيوش قشتالة في موقعة «الأرك» الشهيرة، قرر أن يُشيد مئذنة عظيمة لمسجد إشبيلية الجامع، فأقام صومعة شاهقة، تطل على حديقة إشبيلية، وما يحيط بها من المنطقة المعروفة بالشرف، وأمر بصنع أربع فتاحات مذهبة لتكلل المئذنة، ورفعت في حضوره، ورُكِّبت في أعلى القبة، وأزيحت عنها الأغشية التي كانت تكسوها، فبهرت أنظار الحاضرين ببريقها، لتتحول هذه المئذنة في ما بعد إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع، بعد أن كانت رمزاً للسيادة الإسلامية، وتعرف اليوم باسم «الخيرالدا»، أي (دوارة الرياح)، ويبلغ ارتفاع الجزء الإسلامي منها 65.69 متر.
وبعد هزيمة جيوش الموحدين أمام الإسبان سنة 1212م، حاول الخليفة الموحدي أبو العلاء إدريس بن أبي يوسف يعقوب، أن يعيد لإشبيلية رونقها، فحصّنها، وجدد أسوارها، وحفر أمامها خندقاً مائياً، وأقام فيها برجاً ضخماً للمراقبة العسكرية؛ بغرض السيطرة على حركة المرور النهرية، هو برج الذهب المشهور، القائم حتى اليوم، منتصباً على نهر الوادي الكبير، كأنه شاهد على الماضي العمراني المجيد لحضارة الإسلام في الأندلس بأسرها، حيث أصبح الآن متحفاً للفن المعماري الإسلامي، يأتي إليه السياح من الشرق والغرب.
ومن معالم إشبيلية كذلك قصورها، ومن أهمها قصر المورق (المبارك)، الذي يتميز بفخامته وزخارفه ونقوشه، وأعمدته المبنية على الطراز المعماري الأندلسي.
*علم وثقافة
عرفت إشبيلية في العديد من مراحلها بالثقافة والفن والأدب، فعاش فيها شعراء وأدباء وفنانون كثر، من بينهم: الشاعر ابن زيدون، الذي كان وزيراً للمعتضد وابنه المعتمد، والشاعر ابن عمار الذي كان أيضاً وزيراً وسفيراً للمعتمد بن عباد، والشاعر التُطَيْلِي الأعمى، الذي يعتبر من أهم شعراء الموشحات الأندلسية، والشاعر والكاتب أبو بكر بن قسّوم، والعالم والفيلسوف ابن رشد الذي تولّى فيها القضاء فترة من حياته، والعالم والطبيب عبد الله الكتامي الذي يُعد صاحب أقدم إجازة معروفة في الطب في العالم من جامعة القرويين في فاس، والعالم الطبيب ابن زهر، والعالم والصيدلاني أبو العبّاس النباتي، وتلميذه الشهير الطبيب والفيلسوف ابن البيطار، مؤسس علم النفس الوصفي، الذي تلقى تعليمه فيها، والعالم والفقيه أبو بكر بن محمد بن ابن العربي الإشبيلي، وغيرهم كثير.
لا تزال إشبيلية معروفة حتى الآن بأنها إحدى أهم شواهد عظمة الحضارة الإسلامية في أوروبا، فقد كانت مدينة صغيرة في الأصل، تأسست من طرف الأيبيريين جنوب إسبانيا باسم «أشبالي»، ومعناه (المدينة المنبسطة)، ثم حَوَّره الرومان بعد دخولها إلى اسم «أشباليس»، ليعرّب المسلمون هذا الاسم إلى «إشبيلية» بعد فتحها، ويجعلوا منها أحد أهم مراكزهم الحضارية، وتشتهر بأنها مدينة الأدب، والفن، والطرب، في الأندلس المسلمة.
كانت المدينة قبل دخول المسلمين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، عاصمة لدولة القوط الغربيين، قبل أن ينقل الملك ليوفخلدو العاصمة إلى طليطلة سنة 567م، ولم يتم الاستيلاء عليها من طرف المسلمين في حملتهم الأولى في الأندلس، التي قادها طارق بن زياد، ولكنهم فتحوها في الحملة الثانية التي قادها موسى بن نصير الأموي، سنة (94هـ - 713م)، واختارها لتكون عاصمة للأندلس، ليتم تحويل العاصمة إلى مدينة قرطبة بعد تولي الحر بن عبد الرحمن الثقفي الأندلس عام 98هـ.
أدى نقل العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة إلى نزوح الكثير من المسلمين إلى العاصمة الجديدة، ليصبح المسلمون قلة فيها، وبعد ربع قرن من ذلك التحول، أرسلت الخلافة الأموية فرقة من الجيش الأموي للإقامة في إشبيلية وحماية سواحلها، ليبدأ تدفق القبائل العربية إلى المدينة ابتداء من عام 742م.
*ازدهار
وبعد نجاح صقر قريش عبد الرحمن الداخل في تأسيس الدولة الأموية الغربية في الأندلس، شهدت إشبيلية أزهى عصورها، حيث عني بها الأمراء والخلفاء المسلمون، وازدهرت فيها الحياة الثقافية، والاجتماعية والاقتصادية، فأنشأ الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) مسجداً جامعاً بإشبيلية في سنة 829م، ولكن النورمانديين حرقوه وخربوا بعض قصور المدينة، في هجومهم سنة 884م، ليقيم المسلمون حولها سوراً، ويؤسسوا بفيها مصنعا للسفن الحربية.
شهدت إشبيلية بعد ذلك ثورة ناجحة لبني الحجاج، وبني خلدون، ولكن عبد الرحمن بن محمد المعروف، بعبد الرحمن الثالث (الناصر) نجح في إخضاعهم، ووحّد الأندلس، ليستولي المعتمد بن عباد على المدينة، بعد سقوط دولة الخلافة في قرطبة، حيث كان شاعراً ومثقفاً كبيراً، فأصبحت المدينة في حقبته أهم مدن الأندلس، وشهدت نهضة كبيرة، فازدهرت الحركة الثقافية، بانتعاش الأدب والفنون المختلفة، وصارت إشبيلية قبلة للأدباء والفنانين والمهندسين، ولكن دولة بني عباد لم تعمر طويلاً، إذ سرعان ما انهارت مثل بقية مدن الأندلس التي كانت تتساقط واحدة تلو الأخرى في أيدي القشتاليين، ليدخل المرابطون الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة الشهيرة، ويهزموا جيش قشتالة، ويعزلوا ملوك الطوائف بعد اكتشاف تواطئهم مع القشتاليين، فاستولوا على إشبيلية وهدموا قصور بني عبّاد، وجردوا المعتمد من مُلكه، ونفوه إلى المغرب التي مات فيها فقيراً، ليحكمها الموحدون، ويختارها خليفتهم عبد المؤمن بن علي، عاصمة لملكه في الأندلس، فعادت إشبيلية من جديد لتوهُّجها الحضاري، إذ تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة، وكان محبّاً للفنون والآداب رغم ميوله الحربية، فبنى في إشبيلية القصور والمساجد، وطوّر فيها فن العمارة، وتبعه في ذلك بعده ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور.
*آثار
حين أراد يعقوب المنصور أن يخلد انتصاره التاريخي على جيوش قشتالة في موقعة «الأرك» الشهيرة، قرر أن يُشيد مئذنة عظيمة لمسجد إشبيلية الجامع، فأقام صومعة شاهقة، تطل على حديقة إشبيلية، وما يحيط بها من المنطقة المعروفة بالشرف، وأمر بصنع أربع فتاحات مذهبة لتكلل المئذنة، ورفعت في حضوره، ورُكِّبت في أعلى القبة، وأزيحت عنها الأغشية التي كانت تكسوها، فبهرت أنظار الحاضرين ببريقها، لتتحول هذه المئذنة في ما بعد إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع، بعد أن كانت رمزاً للسيادة الإسلامية، وتعرف اليوم باسم «الخيرالدا»، أي (دوارة الرياح)، ويبلغ ارتفاع الجزء الإسلامي منها 65.69 متر.
وبعد هزيمة جيوش الموحدين أمام الإسبان سنة 1212م، حاول الخليفة الموحدي أبو العلاء إدريس بن أبي يوسف يعقوب، أن يعيد لإشبيلية رونقها، فحصّنها، وجدد أسوارها، وحفر أمامها خندقاً مائياً، وأقام فيها برجاً ضخماً للمراقبة العسكرية؛ بغرض السيطرة على حركة المرور النهرية، هو برج الذهب المشهور، القائم حتى اليوم، منتصباً على نهر الوادي الكبير، كأنه شاهد على الماضي العمراني المجيد لحضارة الإسلام في الأندلس بأسرها، حيث أصبح الآن متحفاً للفن المعماري الإسلامي، يأتي إليه السياح من الشرق والغرب.
ومن معالم إشبيلية كذلك قصورها، ومن أهمها قصر المورق (المبارك)، الذي يتميز بفخامته وزخارفه ونقوشه، وأعمدته المبنية على الطراز المعماري الأندلسي.
*علم وثقافة
عرفت إشبيلية في العديد من مراحلها بالثقافة والفن والأدب، فعاش فيها شعراء وأدباء وفنانون كثر، من بينهم: الشاعر ابن زيدون، الذي كان وزيراً للمعتضد وابنه المعتمد، والشاعر ابن عمار الذي كان أيضاً وزيراً وسفيراً للمعتمد بن عباد، والشاعر التُطَيْلِي الأعمى، الذي يعتبر من أهم شعراء الموشحات الأندلسية، والشاعر والكاتب أبو بكر بن قسّوم، والعالم والفيلسوف ابن رشد الذي تولّى فيها القضاء فترة من حياته، والعالم والطبيب عبد الله الكتامي الذي يُعد صاحب أقدم إجازة معروفة في الطب في العالم من جامعة القرويين في فاس، والعالم الطبيب ابن زهر، والعالم والصيدلاني أبو العبّاس النباتي، وتلميذه الشهير الطبيب والفيلسوف ابن البيطار، مؤسس علم النفس الوصفي، الذي تلقى تعليمه فيها، والعالم والفقيه أبو بكر بن محمد بن ابن العربي الإشبيلي، وغيرهم كثير.