الدراما والتاريخ.. المشي فوق حقول ألغام

00:36 صباحا
قراءة 4 دقائق

التاريخ بحوادثه وصراعاته وتناقضات أبطاله مادة تراجيدية ثرية، غير أن الاقتراب منه بالدراما أقرب إلى مشي فوق ألغام عندما تتضاد المصالح، أو تغيب القواعد.

الاستلهام غير التاريخ، لكن هناك قواعد لا يصح تجاوزها، أهمها أن يكون هناك تدقيقاً في الحوادث الرئيسية دون وقوع في فخ المباشرة، وإلا كانت الدراما من أعمال الدعاية.

من حق المؤلف أن تكون له قراءته الخاصة شرط ألا يتجاوز ما هو ثابت ومؤكد من وقائع، وإلا كان ذلك تزييفاً للحقيقة التاريخية. بين فخي المباشرة والتزييف تكتسب الدراما التاريخية صعوبتها البالغة.

التراجيديات الإغريقية أسست لذلك النوع من الدراما دون أن تكون تأريخاً. في العصور الحديثة استلهم «وليام شكسبير» مسرحياته الشعرية من التاريخ، وقد أكسبته مكانة رفيعة في تاريخ الأدب الإنساني.

كان يقرأ فيما وراء التاريخ وحوادثه من رؤى أوسع وأشمل لفلسفة الحياة وتناقضات البشر والصراع على السلطة والمال والنفوذ.

بفضل أشعاره المسرحية بالغة الروعة والجلال احتفظت الذاكرة الإنسانية بصيحة القيصر المغدور يوليوس قيصر تحت وطأة خيانة صديقه الأقرب: «حتى أنت يا بروتوس» واستقرت في الكتابات السياسية الغربية مرثية مارك أنطونيو وهو يتعهد بالثأر لدم القيصر، كمثال للمدح والقدح بنفس الوقت وخلط الأوراق السياسية على نحو مربك.

على ذات النهج استلهم محفوظ عبدالرحمن المؤسس الحقيقي للدراما التلفزيونية العربية لحظة مماثلة من التاريخ المصري عند مصرع سيف الدين قطز، بتدبير من الظاهر بيبرس.

في طريق عودة الجيش المنتصر على المغول بعد معركة عين جالوت اغتيل السلطان وجلس صديقه اللدود على عرشه. في مونولوج طويل فيه حب ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ بيبرس يرثي صديقه الذي قتله للتوّ في رائعة محفوظ «الكتابة على لحم يحترق».

بتكوين محفوظ فهو قارئ تاريخ محترف، يدقق في الروايات والمذكرات والوثائق وتستهويه ما تنطوي عليه من تراجيديات. يبني عقيدته الخاصة قبل أن يضع حرفاً واحداً على ورق، يكتب وهو يعرف وجهته الأخيرة.

الكتابة التاريخية ليست حصصاً في الإنشاء الدعائي، شخصيات مسطحة بلا أبعاد إنسانية ووقائع توظف حقائقها لمقتضيات المصالح وتسويات الحسابات.

أعماله المستلهمة من وقائع تاريخية بعيدة مثل «ليلة سقوط غرناطة» و«ليلة مصرع المتنبي» و«سليمان الحلبي» تستمد قيمتها من مدى صدقها الفني والتزامها في الوقت نفسه بالحقائق الأساسية، فلا تزيف تاريخ ولا تدّعى عليه.

لكنها تضيف شخصيات للدراما لم توجد قط حتى يتسنى للمؤلف إثراء العمل وكشف البيئة المحيطة التي تجرى فيها حوادثه. القاعدة نفسها تنطبق على الدراما التاريخية المعاصرة غير أن المهمة في هذه الحالة أصعب وأشق.

في «بوابة الحلواني» رؤية متماسكة تاريخياً وجديدة درامياً لقصة حفر قناة السويس، كيف تغيرت الحياة في «الفرما» التي أصبح اسمها تالياً «بورسعيد»، وكيف كانت صورة الحياة السياسية والثقافية والفنية في تلك الأيام؟

لأول مرة يُرد اعتبار الخديوي إسماعيل درامياً، بعد أن دأبت لسنوات طويلة مسرحيات وأفلام كوميدية على السخرية منه دون ذكر اسمه.

في رد الاعتبار الدرامي انتساب لتيار تاريخي عريض ينصف إسماعيل ويقدر حجم ما أنجزه في بناء مصر الحديثة رغم أية أخطاء فادحة ارتكبها.

لا يوجد أديب آخر على ذات درجة درايته بأدق تفاصيل قصة القناة السياسية والإنسانية معاً، قرأ كل المذكرات وراجع كل الوثائق وحاور كل شهود العيان، والتزم الصدق التاريخي.

بالنسبة لمحفوظ، فإن الأساس هو حفظ الشخصية التاريخية قبل الكتابة عنها، أن تعرف مفاتيحها وكيف يمكن أن تتصرف في المواقف المختلفة، وعندما تحفظها فالمغاليق تفتح أمامك، كما روى لي ذات حوار بيننا.

لم يكن مستعداً، وهو يبحث ويحقق كل ما كتب عن أم كلثوم، أن يدخل في مناطق من حياتها الشخصية بروايات ظنية لا دليل نهائي عليها، أو أن تكون الإثارة مقدمة على القيمة.

اقترن اسمه بأسامة أنور عكاشة، فلا يذكر اسم أحدهما حتى تستدعى الذاكرة الآخر، هما توأمان فنىان ينتميان إلى الأفكار نفسها لكن كلٌّ على طريقته، فمحفوظ المثقف الموسوعي تمتد أعماله الدرامية فوق خطوط التاريخ، وأسامة الفنان الملهم تقتحم أعماله المجتمع وتحولاته.

غير أن كليهما أخذ شيئاً جوهرياً من عالم توأمه الفني، فمحفوظ أضفى على سيناريوهاته التاريخية رؤية اجتماعية للعصر الذي تجرى فيه وخلق الدراما من بين التناقضات، بينما أسبغ أسامة على روايته الاجتماعية رؤية تاريخية تعمقها وتضفي عليها رسالتها، كما فعل في أعماله التلفزيونية «ليالي الحلمية» و«المصراوية» و«زيزينيا».

الدراما التاريخية بلا رؤية لمجتمعها مبتورة والدراما الاجتماعية بلا رؤية لتاريخها مسطحة. وكان كلاهما على علم بأصول الصنعة، مدركاً أنه يكتب على لحم يحترق لمجتمع يتوق للحرية والعدل.

الإنصاف من القواعد الأساسية للدراما التاريخية، لكنه لا يعني المساواة بين الأبطال والأوغاد حتى يقال إن المؤلف كان عادلاً فيما هو يقع في محظور التزييف.

كلما تباعدت الأزمان والمسافات قد يظن أن الكتابة الدرامية التاريخية أسهل، أو أن الحواجز والحساسيات قد أزيلت، لكن ذلك ليس صحيحاً دائماً.

إنه المشي مجدداً فوق حقول الألغام كما يحدث حالياً لمسلسل «الحشاشين» والصخب حوله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/47x9rnnz

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"