الشرق شرق والغرب غرب

00:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

إذا كان للأزمات من إيجابيات أو فضائل، فإنها تعيد نبش المفاهيم، لأن الأزمات ما هي إلا خير اختبار لتلك المفاهيم، فإما تستحضرها لتناقشها من جديد، أو لتثبت صحتها من عدمها. وأهم هذه المفاهيم تتعلق بالحديث عن الشرق والغرب، ابتداء بالشاعر الإنجليزي ريديارد كيبلنغ الذي أطلق مقولة في نهاية القرن التاسع عشر: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا)، وليس انتهاء بالبروفيسور إدوارد سعيد، الذي حمل عنوان «الاستشراق» وصدر في عام 1978، وتُرجم إلى عشرين لغة، وصدرت كتبٌ بلغات عديدة ناقشته واستبعدت ما ذهب إليه.

ولم تظهر بعد ذلك مؤلفات ذات أهمية في الموضوع، باستثناء صدور كتاب بعنوان (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي) للباحث صموئيل هنتنغتون في عام 1996، حيث أشار إلى أن النزاعات القادمة بين الحضارات ستكون صراعات ثقافية. وفي الواقع جاء كتاب هنتنغتون رداً على كتاب فرنسيس فوكوياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي صدر في عام 1992، وتتلخص نظريته في أن «الديمقراطية الليبرالية، بقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية». والنظريتان جاءتا على خلفية أحداث كبرى وقعت في أوروبا الغربية والشرقية، منها انهيار جدار برلين، وسقوط الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفييتي.

وتبقى نظرية (الشرق شرق والغرب غرب) لدينا نحن العرب، لصيقة بالأحداث السياسية، فإما تعزّزها وإما تخفّف من وطأتها وإما تنسفها من جذورها. وإذا عدنا إلى كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، الذي صدر في عام 1978، فإنه جاء بعد حروب كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بالذات، وأي حرب تصاحبها مفاهيم وآراء تشكل في ما بعد رأياً عاماً، وتلك الحروب كانت مفصلية، منها الحرب العالمية الثانية التي قسّمت العالم العربي إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا، ومنها حرب عام 1948 التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل في فلسطين باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة وحرب 1967، حيث احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين، ثم حرب أكتوبر 1973 بين إسرائيل والعرب.

ويرى إدوارد سعيد أن الحروب هي نتاج مفاهيم خاطئة كوّنها الغرب عن العرب والمسلمين، مهّد لخطط السيطرة عليهم واستعمارهم، وقد ناقش بعض المفكرين أطروحة سعيد باتهامه بأنه يدافع عن بلاده ويشخصن النظرية، لكن البروفيسور سعيد كان قد حشد الكثير من التصورات الغربية، والأمريكية لاحقاً، ليثبت نظريته، والتي من بينها خيالات الرحالة الغربيين. ويبدو لي أن إدوارد سعيد أكد من خلال كتابه، من دون الإشارة إلى ذلك، مقولة الشاعر الإنجليزي كبلنغ، الذي أطلقها حين كان في الهند، حيث كانت بريطانيا تسعى إلى جعل الهند تابعة إلى الأبد لإمبراطوريتها.

ولم يتوقف الحديث عن مقولة الشاعر الإنجليزي، إذ ظهرت بين فترة وأخرى في القرن الواحد والعشرين، خاصة حين شهد العالم العربي ما يُسمّى ب(الربيع العربي)، وقد اتُهم الغرب بالمساهمة الفعالة في تأجيجه عن طريق تصدير مقاتلين متطرفين للمنطقة العربية، ولا أدري إن كان المفكر والشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، قد استند إلى ذلك حين نشر مقالاً في «جريدة الخليج» بتاريخ 15 مارس/ آذار عام 2014، ذكر فيه أن المقولة التي أطلقها الشاعر الإنجليزي تحمل الكثير من معاني الحقيقة التي لا تقبل التغيير، وأنها تجسد واقع العلاقات بين الشرق والغرب، لا في العلاقات والتقاليد والموروثات الروحية والثقافية فحسب؛ وإنما تجسد حالة السياسة المتعارضة أيضاً. وقال المقالح إن الشرق القديم كان مختلفاً عن الغرب القديم ولا يزال الاختلاف قائماً حتى الآن، وربما زاد في العصر الحديث اتساعاً نتيجة الغزوات الاستعمارية الغربية، ويقول إنه إذا ما حدثت هدنة ما بين الشرق والغرب، فإنها عادة ما تكون مؤقتة وتعود الأمور إلى سالف عهدها.

حدث ذلك في الماضي البعيد والقريب وحدث في الوقت الراهن، والشواهد في كل الأحوال تؤكد حقيقة أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. بينما يعارضه الكاتب الجزائري نور الدين ثنيو في مقالة نشرها في «القدس العربي» بتاريخ 22 يونيو/ حزيران 2022، إذ يقول صراحة إن مقولة كيبلينغ لم تعد صحيحة، «لأن الذين روّجوا لها أكثرهم سكان البلاد المحتلة ومثقفوهم ونخبهم، الذين وجدوا في معنى المقولة شرحاً إضافياً لما يريدونه من الاستعمار كريع على صعيد الذاكرة والتاريخ، وأن خطابهم الأيديولوجي والفكري جاهز، يمكنهم التحدث به إلى الجماهير الجديدة التي لم تعرف مستعمر الأمس».

ويبدو أن الحرب الحالية في قطاع غزة، واستمرار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي هو عبارة عن صراع عربي غربي، يعيد مقولة الشاعر الإنجليزي وأطروحة إدوارد سعيد إلى الواجهة، وقد تجسّد ذلك، في الاصطفاف الأوروبي الأمريكي سياسياً وعسكرياً وثقافياً وفكرياً إلى جانب إسرائيل، لحمايتها من أي تحرك عسكري أو شعبي إقليمي، كونها تترجم الثقافة والمفاهيم والطموحات الغربية.

ويبدو أنه على الرغم من كل الجهود الثقافية للمنظمات والمفكرين، نحو إقامة نظام عالمي جديد، وتلاقح الثقافات، سيبقى الشرق شرقاً، والغرب غرباً، إلى أن تثبت الأزمات العكس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/48dezrcc

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"