من التعايش إلى الإبادة

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

نبيل سالم

بعد مضي نحو ستة أشهر على الحرب التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وما شهدته هذه الحرب من عمليات إبادة حقيقية في غزة، قد يسأل الكثير من المتابعين لهذه الحرب الإسرائيلية المجنونة: وماذا بعد..؟

في الحقيقة، هذا السؤال يبدو منطقياً، بل وضرورياً، إذا ما علمنا أن الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية، بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني المقاوم، ليست حدثاً منفصلاً، وإنما هي حلقة في تاريخ طويل يزيد على مئة عام من الصراع الدموي، لم يستطع الاحتلال الإسرائيلي خلالها تحقيق الانتصار النهائي وشطب القضية الفلسطينية، وإلغاء الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، رغم الفارق الكبير في القوة العسكرية بين الطرفين، لأسباب كثيرة، أهمها العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، والعقيدة الوطنية الفلسطينية التي تجذّرت وتعمّدت بالدم على مدى سنوات الصراع الطويلة.

ولو عدنا إلى بدايات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لوجدنا أن إسرائيل قامت على مدار سنوات الصراع بإذكاء نيران العداء لها في صفوف الشعب الفلسطيني، وعلى مدى أكثر من خمسة وسبعين عاماً، رغم كل ما تم تقديمه «عربياً وفلسطينيا» من تنازلات ظن أصحابها أنها قد تسهم في إيجاد حلول وسط من أجل تحقيق سلام بين الشعب الفلسطيني والإسرائيليين، من منطلقات أساسية، أبرزها رغبة الشعب الفلسطيني في السلام، وإنهاء دوامة العنف التي تطحن الطرفين، وهذه الرغبة في السلام ليست طارئة على الفلسفة الفلسطينية، ودليل ذلك الحياة المشتركة التي عاشها اليهود مع الفلسطينيين، قبل قيام إسرائيل في عام 1948 من القرن الماضي، حتى أن الكثير من كبار السّن الفلسطينيين، يروون العديد من القصص التي كانت تحدث قبل نكبة عام 1948 لدرجة أن النساء الفلسطينيات كن يطهين الطعام لليهود في أعيادهم، كيوم السبت، ويوم كيبور في الشريعة اليهودية، الذي يحظر فيه على اليهود الشغل، وإشعال النار، وغيرها من المحظورات التي تفرضها الشريعة اليهودية. لكن كل صور هذه الحياة المشتركة تلاشت بعد قيام إسرائيل، وحلت حالة من العداء زادت من تعمقها في صفوف الفلسطينيين المجازر المروعة التي ارتكبها المستوطنون الإسرائيليون الأوائل، من خلال عصابات مسلحة مثل شتيرن، وهاغانا، وإرغون، وبيتار، وبلماح، التي سُجل ارتكابها لعشرات المجازر الكبرى مثل مجزرة دير ياسين التي وقعت في 9 إبريل/ نيسان عام 1948 وتم خلالها نسف المنازل على رؤوس سكانها، ما أدى إلى استشهاد أكثر من مئتين وخمسين فلسطينياً، بينهم 25 سيدة حاملاً، تم بقر بطونهن، وهن أحياء برؤوس الحراب.

وهناك الكثير من المجازر المشابهة التي قد يصعب حصرها، ففي عام 2013، اكتشفت «مؤسسة الأقصى للوقف والتراث» وجود 6 مقابر جماعية تضم مئات الرفات والهياكل العظمية لشهداء ومدنيين قُتلوا خلال عامي 1936 و1948؛ خلال أعمال ترميم كانت تقوم بها المؤسسة في مقبرة الكزخانة في مدينة يافا،

ويقول فلسطينيون إن المجموعات اليهودية المسلحة نفذت العديد من المجازر بالقرى الفلسطينية خلال حرب 1948 لإجبار سكانها على الرحيل.

وبحسب مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت، فإن عدد المجازر التي ارتكبها المستوطنون الأوائل في الفترة بين 1937 و1948، زادت على 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطيني، فضلاً عن إصابة الآلاف.

وبعد حرب عام 1967، زادت شهية الاحتلال الإسرائيلي بسبب حالة النشوة بالانتصار إلى المزيد الاستيطان والعنف، وبرز التأثير القوي لليمين المتطرف في «إسرائيل» الذي بات معارضاً قوياً لفكرة السلام مع العرب، والتي راحت تتبلور بشكل ملموس بعد حرب 1973، التي شرعت الأبواب أمام التسوية السلمية للصراع في المنطقة.

وعلى الرغم مما قدمه الجانب الفلسطيني من تنازلات، في اتفاقيات أوسلو التي تم توقيعها في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، والذي قبلت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بنحو عشرين في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، مقابل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإقامة دولة مستقلة، نلاحظ أن «إسرائيل» أمعنت في تجاهل ما أقرته هذه الاتفاقية، بل وزادت من عمليات الاستيطان بشكل كثيف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما تعاملت باستخفاف مع مبادرة السلام العربية في عام 2002 الداعية لإقامة دولة فلسطينية معترف بها دولياً، على حدود 1967، وعودة اللاجئين، وانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل.

ونرى من كل ما تقدم أن «إسرائيل» لم تكن يوماً معنية بحل سلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن كل ما ترومه هو القضاء على الشعب الفلسطيني الذي يمثل النقيض الأساسي والأكبر للاختلال، وأنها أضاعت عمداً كل الفرص المقدمة لها من أجل السلام، والنتيجة أنها بدلاً من صنع السلام مع العرب تصنع كل يوم أعداء جدداً لها، وأن ما يحدث في غزة الآن لن يقضي على الشعب الفلسطيني، أو إفراغ فلسطين من شعبها، وإنما سيخلق أجيالاً أخرى من المقاومة، سيجعل«إسرائيل» الخاسر الأكبر في النهاية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/t6brmx5r

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"