الجدل بشأن طريقة قياس الناتج المحلي الأمريكي

22:53 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *
في إطار الجدل الاقتصادي الذي بات التسييس يتسيد ميدانه للأسف الشديد، فإن أصواتاً متزايدة في الشرق (والغرب أيضاً) صارت تشكك – ربما في سياق التنافس (التنابذ) القطبي - في حقيقة البيانات الرسمية الأمريكية المتعلقة بطريقة احتساب إجمالي الناتج المحلي الأمريكي. هؤلاء يزعمون أن جزءاً يقدّر بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، لا يستحق احتسابه محاسبياً في الإجمالي. وهم يستندون في ذلك إلى ما كان نشره بهذا الخصوص في عام 2008، موقع مكتب التحليل الاقتصادي الحكومي الأمريكي (BEA)، التابع لوزارة التجارة الأمريكية، المعني بإعداد وتوفير إحصاءات رسمية عن الاقتصاد الكلي والصناعة، والتقرير، خصوصاً بشأن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الفدرالي ومستوى الولايات. فقد وضع هذا المكتب منشوراً على موقعه تحت عنوان «لماذا يتضمن الناتج المحلي الإجمالي تضمينات فرضية؟».. من قبيل قيام الحكومة بإضافة قيمة إيجار مفترَض لشخص اشترى منزلاً، إلى الناتج المحلي الإجمالي، على أساس أن هذا الشخص لو لم يشتر المنزل، لكان قد أنفق مبلغاً معيناً على الإيجار. فالناتج المحلي، بحسب منهجية المكتب، يجب أن يشمل بعض السلع والخدمات التي لا يتم تداولها في السوق، بمسمى التضمينات الفرضية؛ ومن أمثلتها خدمات السكن الذي يشغله مالكوه، والخدمات المالية المقدمة من دون مقابل، وخدمات التأمين الصحي التي يقدمها صاحب العمل. وأكبر احتساب للتضمينات في حسابات الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (كدخل مفترض)، هو ذاك الذي تم إجراؤه لتقريب قيمة الخدمات التي تقدمها المساكن التي يشغلها مالكوها. ويتم هذا الاحتساب بحيث تكون معاملة المساكن التي يشغلها مالكوها في الناتج المحلي الإجمالي مماثلة لتلك الخاصة بالمساكن التي يشغلها المستأجرون، والتي يتم تقييمها من خلال الإيجار المدفوع.

دخل آخر افتراضي (وهمي) تتم إضافته للناتج، هو ذاك المتعلق بقياس الخدمات المالية التي تقدمها البنوك والمؤسسات المالية الأخرى، إما بدون مقابل، وإما مقابل رسوم بسيطة لا تعكس القيمة الكاملة للخدمة. من أمثلتها صيانة الحساب الجاري والخدمات المقدمة للمقترضين. فبالنسبة إلى المودع، يتم قياس هذه «الفائدة المحسوبة» على أنها الفرق بين الفائدة التي يدفعها البنك والفائدة التي كان من الممكن أن يحصل عليها المودع من خلال الاستثمار في الأوراق المالية الحكومية «الآمنة». وبالنسبة إلى المقترض، يتم قياس قيمة الدخل الافتراضية على أنها الفرق بين الفائدة التي يتقاضاها البنك والفائدة التي كان من الممكن أن يحصل عليها البنك من خلال الاستثمار في تلك الأوراق المالية الحكومية.

ومنذ منتصف التسعينيات، زادت حصص التضمينات الافتراضية في الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، مع نمو الأنشطة التي تم قياسها بشكل أسرع من الأنشطة الأخرى. فمن سنة 1996 إلى 2006، ارتفعت حصة الناتج المحلي الإجمالي التي تمثلها المساكن التي يشغلها مالكوها من 6.0% إلى 6.2%. وفي الفترة من عام 1996 إلى عام 2006، ارتفعت حصة مساهمات أصحاب العمل في التأمين الصحي الخاص، والتأمين على الحياة من 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.2%. وفي عام 2006، مثلت الخدمات المالية التضمينية الافتراضية نسبة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نفس النسبة المضافة في عام 1996. وفي الفترة من عام 1996 إلى عام 2006، ارتفعت حصة جميع التضمينات الافتراضية في الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من 13.8% إلى 14.8%.

وبعض الاقتصاديين الأمريكيين يعتقدون أن نسبة الإضافات الوهمية لحساب إجمالي الناتج المحلي الأمريكي تزيد كثيراً على نسبة ال 15% التي يُقر بها مكتب التحليل الاقتصادي الحكومي الأمريكي. فكثيراً ما تدفع الاقتصادات الورقية في نظام المحاسبة بمعاملات يتم تكرار احتسابها من قبل الشركات المرسلة لبياناتها. لذلك هم يطلقون على حصيلة عملية الحساب هذه تسمية «سلَطة الإجمالي» (GDP salad). فعملية الحساب تعتمد في الأغلب على الإنفاق الاستهلاكي الذي لا يقيم وزنا لمصدر السلع، ولا للتصنيع والإنتاج. فهم يستغربون مثلاً من إضافة الإيجار، أو «الإيجار المفترض»، إلى الإجمالي، إلا لو كان الاقتصاد الأمريكي عبارة عن عمليات اقتصادية افتراضية مضخمة، في ضوء التخلي عن التصنيع وتراجع الزراعة، ما جعل منه اقتصاد كازينو تحدد الأسهم مدى عافيته، من عدمها.

في الماضي، في ألمانيا، كان هناك مفهوم رجل الأعمال الوقور النزيه الذي كان يحتفظ بدفاتره المحاسبية بأمانة، وبشكل صحيح، ودقيق، إلى أن دخلت ما تسمى «معايير المحاسبة الدولية» إلى ميدان المحاسبة القانونية، لتغير كثيراً من قواعد اللعبة المحاسبية.

* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4hse649t

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"