عادي
صدر في الشارقة

«السرد المعاصر».. نافذة التراث على العالم

17:53 مساء
قراءة 5 دقائق
منير عتيبة

الشارقة: جاكاتي الشيخ

استخدام التراث في السرد، كفاعل أساسي، وليس مجرد خلفية أو زينة، كما يستخدمه البعض، هو موضوع كتاب «التراث في السرد المعاصر» لمنير عتيبة، الذي يقدم من خلاله قراءات لأعمال سردية من دول مختلفة وظفت التراث بطلاً في السرد، وهي مجرد نماذج يوجد غيرها كما يقول المؤلف، ولكنها ربما تقدم فكرة معقولة عن الموضوع، تمكن من فتح نقاش موسع حوله.

الكتاب الصادر سنة 2023 عن معهد الشارقة للتراث، في 176 صفحة من القطع المتوسط، يستهله مؤلفه بإهداء يقول فيه: «إلى من صنعوا لنا تاريخاً إنسانياً حافلاً بالأفكار والمعاني والحكايات.. وإلى من لا يتوقفون عن التحاور مع هذا التاريخ..»، وقد اشتمل على مدخل تحت عنوان: «التراث وأنا.. شهادة على رحلة إبداعية مع التراث»، وعدة ورقات تناول فيها المؤلف النماذج السردية التي اختارها، وهي: طقوس الحياة في رواية «دخان» للكاتب الموريتاني محمد ولد سالم، ورواية («ريمو» للكاتبة المصرية انتصار سيف وسيل ثقافي لا ينقطع)، ورواية («الرهينة» لزيد مطيع دماج والتراث اليمني)، والموروث الثقافي في «متواليات باب ستة» للأديب المصري سعيد بكر، و«الربع الأخير من القمر» من تأليف الكاتبة الصينية تشيه زيه جيان، و«ثلاثية الرُّحل».. ملحمة كازاخستانية من تأليف إلياس يسينبيرلين، وقصص نساء من نيجيريا لتوين أديوالي، وطقوس الزفاف في قومية «هوي» الصينية في رواية «زهرة السوسن» للكاتبة ماجين ليان.

*اهتمام

يحاول المؤلف تعريف التراث، فيشير إلى أن مفاهيمه تتعدد لغوياً واصطلاحياً، ولكنها تتفق جميعاً في محاور أساسية على أن التراث يرتبط بما تركه الآباء والأجداد من إرث أو ميراث، وأن هذا الإرث مادي ومعنوي، حيث يتمثل جانبه المادي في كل ما تركوه لنا من مبان وأدوات ملموسة، فيما يتمثل جانبه المعنوي في كل ما تركوه لنا من معرفة وقيم ومحددات سلوك غير ملموسة.

ولكونه قاصاً وروائياً وناقداً؛ يؤكد المؤلف أنه خلال مسيرته الإبداعية، كان يتعامل مع التراث بمفهوم يخصه شخصياً، وإن لم يبتعد كثيراً عن المعاني الأساسية لكلمة (تراث)، إذ اعتبر الآباء والأجداد هم كل من سبقوه في التاريخ الإنساني، وتعامل مع التراث الرسمي والتراث الشعبي بالقدر نفسه من الاحترام، باعتبارهما من أشكال تعبير الإنسان عن نفسه في لحظة زمنية معينة، ورأى أن التراث يمكن أن ينقسم إلى حي وميت، فالتراث الميت هو الذي لم يعد له تأثير حقيقي في إنسان الحاضر، أما التراث الحي فهو الذي لا يزال يؤثر في حياتنا الحاضرة، أو يمكن أن يكون له تأثير إذا تعاطينا معه بالشكل المناسب، وهي أمور تجلت بشكل لافت في أعماله الأولى التي اتكأ فيها على التراث الفكري والأدبي والشعبي العالمي، إلا أن اهتمامه بالتراث تطور بعد ذلك فأعاد كتابة وتبسيط بعض القصص الأدبية الفرعونية الكبرى، التي تبين من خلالها أثر الأدب المصري القديم في ألف ليلة وليلة بما فيه من غرائبية وفانتازيا وتقنية الحكاية داخل حكاية، وهو ما يؤكد تواصل التراث الإنساني وتأثيره فيما يخص الإبداع الأدبي، وذلك ما نبهه إلى الانتقال للاهتمام بالتراث الشعبي العربي، وجوانب من التراث العالمي، خصوصاً الهندي والإفريقي والصيني، والأمريكي اللاتيني الذي كانت كتابات رواد تيار الواقعية السحرية فيه دافعاً له للبحث عن أصول ومصادر هذا الاتجاه الأدبي، ليتبيّن أن الثقافة العربية عموماً وكتاب ألف ليلة وليلة بالذات من أهم مصادر ثقافة أعلام ذلك التيار، لينتهي به المطاف وقد اقتنع بأن الأعمال التي تتحاور مع التراث الفرعوني والديني الإسلامي والتاريخي هي الأقرب الأولى بالاهتمام.

*اعتقاد يقيني

يرى المؤلف أن ولد سالم في رواية «دخان» تعامل مع الموروث الشعبي الموريتاني بوصفه اعتقاداً يقينياً وممارسة يومية في حياة شخصيات عمله، وليس مجرد حلية يزين بها سرده، أو أمراً طريفاً يعرضه على القارئ الأجنبي؛ لذا كانت طقوس الحياة الشعبية ودقائقها المبثوثة في معظم صفحات الرواية هي ما منحتها تلك الروح المميزة، وجعلتها قطعة حقيقية من حياة بطلها عبد الرحمن، أما الكاتبة انتصار سيف فتُراهن في روايتها «ريمو» على تفاصيل الحياة التي تقدمها أكثر مما تراهن على الحكاية المعروفة، وتراهن على التفاصيل من حيث استمراريتها أكثر من طرافتها أو غرابتها، حيث يجد القارئ نفسه منغمساً في حياة أشخاص عاشوا منذ آلاف السنين، وكأنه يقرأ حياته الشخصية، وهو ما يؤكد أن تلك الثقافة سيل متدفّق لم ينقطع منذ العصر الفرعوني وحتى الآن، لأنها ثقافة حية تشكلت مع التغيرات الثقافية الكبرى التي مرت بها البلاد، وظلت موجودة وفاعلة في الحياة اليومية للمصريين، سواء شعروا أو لم يشعروا.

وفي رواية «الرهينة» يستخدم الكاتب دماج أسلوب الاعترافات في سرده، إذ تدور على لسان البطل وتجعلنا قدرته البوحية الهائلة مُصدّقين تماماً لما يجري، فهو لا يعرف شيئاً عن أي شيء منذ البداية، وجهله بالعالم الذي يُقبل عليه لا يقل عن جهلنا به، فنحن نكتشف معه التراث اليمني، ونمتلك معه دهشة وبكارة لحظة الكشف والاكتشاف الأولى، إذ يحرص دماج منذ البداية على وضع قارئه في الظرف المكاني والزماني والنفسي لبطله، واصفاً الأمكنة بطريقة تجسمها للقارئ وتجعلها مرئية، ومستخدماً الأسماء اليمنية للأشياء والأدوات والصفات والعلاقات، كما يبدو أثر الموروث الشعبي المصري واضحاً في رواية «متواليات باب ستة» لسعيد بكر، حيث يُلاحظ صدق وأمانة الكاتب مع الموروث بمستوييه الفني والاجتماعي.

*عالم لن يعود

أما الكاتبة الصينية تشيه زيه جيان فإنها تعيد بناء عالم لن يعود في روايتها «الربع الأخير من القمر»، وذلك من خلال سرد امرأة عجوز تداعى عالمها وانقضى، لتحكي كل تفاصيله بحميمية، وبلهجة أقرب إلى الرواة الشعبيين، ما أعطاها حرية الحركة في الزمان والمكان، والأفكار والأشخاص، فلا يشك القارئ لحظة في صدقها، ولا ينصرف انتباهه عنها، فيما قدم إلياس يسينبيرلين ملحمة الراوي الشعبي في كازاخستان عبر روايته «ثلاثية الرُّحل»، التي وصف فيها البرية العظمى قبل العصر المنغولي وعصر جنكيز خان والقبيلة الذهبية.

وفي كتاب «قصص قصيرة لست عشرة كاتبة نيجيرية» لتوين أديوالي، نجد الكثير من ملامح الحياة والأفكار الشعبية الإفريقية، ولكن بعض هذه القصص جعلت من التراث الشعبي عنصراً رئيساً وفاعلاً في البناء السردي لها، ويختتم المؤلف تتبعه للتراث وملامح الحياة الشعبية في السرد المعاصر برواية «زهرة السوسن» للكاتبة ماجين ليان، التي تتناول طقوس الزفاف في قومية «هوي» المسلمة الصينية، حيث تعتبر رواية ممتعة لمن يهوى معرفة تفاصيل الحياة اليومية والعادات الشعبية للشعوب بصرف النظر عن المستوى السردي للرواية، ودرجة التشويق فيها.

*اقتباسات

يُعرّف العالم الأنثربولوجي إدوارد تايلور الثقافة بأنها «ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع».

استعار غابرييل غارثيا ماركيز من جدته النبرة التي يحكي بها روايته «مئة عام من العزلة»، والمتمثلة في حكاية كل ما هو غريب وغير واقعي، بتلقائية وبساطة وكأنه واقعي جداً.

فكرة الحكاية الفرعونية «الأمير الذي يطارده الموت»، هي التي بنى عليها نجيب محفوظ روايته «عبث الأقدار».

تبدو إفريقيا للبعض وكأنها في كون آخر، لكن من يقرأ الأدب الإفريقي يعلم ويتيقن خطأ ذلك التصور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y2xzdrz4

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"