عادي
في شاعرية البصر

الأرض أعلى مقامات العشق

14:48 مساء
قراءة 3 دقائق
منير الشعراني
لوحة «أنا العاشق، والأرض حبيبهْ »

الشارقة: جاكاتي الشيخ

الفنان السوري منير الشعراني هو أحد كبار الخطاطين العرب، الذين وضعوا بصمات خاصة في فن الخط العربي، حيث أبدع فيه ونظّر له كثيراً، حتى استطاع تصميم خطوط جديدة، شكّلت إضافة حقيقية لهذا المجال، فانتشرت أعماله في مختلف متاحف العالم ومؤسساته الثقافية، متميزة بطابعها الخاص، الذي نقدم نموذجاً له من خلال اللوحة التي نتناولها هنا.

لقد عمل الشعراني منذ تفتقت موهبته الفنية في الخط على نقل هذا الفن التراثي الجميل إلى مستويات عالمية رحبة، ومنحه نفساً جديداً من التطوير، يتجاوز التفنن في الزخرفة والتزويق، لكي لا يظل فناً محشوراً في شرنقة النمطية والتكرار، لما يمتلكه الحرف العربي من موروث ثقافي يُمكنّه من التعبير عن جماليات لا محدودة، وهو ما جعله ينجح من خلال تجربته الفردية الحثيثة في نقل اللوحة الخطية العربية إلى مستويات ابتكارية متجدّدة.

* اختيار

اختار الشعراني سطر محمود درويش «إنني العاشق، والأرض حبيبهْ !» مضموناً لإحدى لوحاته، مع تصرف طفيف، وضع من خلاله «أنا» بدل «إنني»، وهو الذي تعود في لوحاته وضع مضامين الحكمة والشعر، لتتناسب مع شكل الحرف واللوحة في إيقاع حركي ولوني متفاعل، من أجل تحقيق أعلى درجات الانسجام، وليمنح المتلقّي شاعرية بصرية ترتاد بخياله أسمى فضاءات الجمال.

يطفح هذه السطر الشعري بحب الأرض، من شاعر مبدع عاش لأرضه وكتب لها أجمل شعره، وقد أراد هنا أن يعبر عن الارتباط الوثيق بالأرض، فهو العاشق والأرض حبيبته، فالتعبير عن العشق لأرض هو تأكيد لأوثق عرى الحب، وهو ما استطاع الفنان التقاطه وتوظيفه في هذه اللوحة، من خلال تموضع الكلمات والتأطير المتعمد للنص واختيار الألوان المعبرة عن الحالة الوجدانية التي تنضح بها قريحة الشاعر المسكون بحب أرضه.

* استلهام

حاول الشعراني في هذه اللوحة استلهام ما أمكن من أساليب الخط العربي، لتقديم عمل مميز بلمسات إبداعية، وهو ما دأب على العمل عليه من أجل تفجير جماليات فنية جديدة من هذا الفن، فبدأ اللوحة بـ «أنا العاشق» وقد مدّ كل الألفات ولام العاشق في ارتفاع بارز، تعبيراً عن رغبة الشاعر في التحليق، وقوة صوته وهو يبوح بهذه العبارة، وكأنه يريد أن يصرخ بهذا العشق الذي يفتخر به أمام الجميع، وقد وضع مقطع «شق» من كلمة «العاشق» في حضن مقطع «العا»، وكأنه يريد التعبير عن أن الشاعر العاشق هو شق من أرضه الحبيبة، واختار لكلمة «الأرض» قمة اللوحة، ليوحي بالمكانة التي يضع فيها المحبّ الشاعر حبيبته الأرض، إنه يضعها في أعلى مقامات العشق، واختار لكلمة «حبيبة» مساحة خاصة في قلب اللوحة، وهل يكون الحب إلا في القلب؟.

أما من ناحية الألوان، فقد اختار الشعراني ثلاثة ألوان فقط لخط لوحته، هي اللون البني واللون الأخضر واللون الأحمر، فاللون البني الذي خط به مقطع «أنا العاشق» لونٌ مثير لشعور الحنين وقوة الارتباط، وقد أراد الخطاط أن يعبر به عن ارتباط الشاعر بأرضه التي يعشق، واللون الأخضر الذي خط به مقطع «والأرض حبيبه» هو لون الانسجام والخصوبة والنماء والتجدد، تعبيراً عن قوة تشبث الشاعر بأرضه التي تعتبر رمزاً لهويته الخالدة، فيما يعتبر اللون الأحمر الذي اختاره للنقاط والإطار لوناً معبراً عن شدة العاطفة وحرارتها، فإذا كان العشق في قلب الشاعر فهو يؤطر وجوده أيضاً ويحتويه طاغياً على كيانه.

لقد حاول الشعراني في هذه اللوحة البسيطة والخالية من أي زخارف، أن يعتمد على بعث القدرة الحرفية لاستقراء الجمال وبثه في قلوب المشاهدين، جاعلاً من المتلقي شريكاً في فهم دلالات العمل الإبداعي، وهو ما نجح فيه ومكّنه من تقديم لوحات فنية منسجمة في معماريتها ومكتملة في معاييرها الفنية، ومتناغمة مع مختلف الأذواق بتنوع ثقافاتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4j8afxnv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"