اليمين وأزمة أوروبا الاقتصادية

22:09 مساء
قراءة 4 دقائق

غوردون براون *

مع اقتراب الانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو/ حزيران المقبل، سيتحول الانجراف نحو اليمين في السياسة الأوروبية هذا العام إلى موجة عارمة. حيث يتصدر الديماغوجيون القوميون المتطرفون، والقوميون الشعبويون استطلاعات الرأي في إيطاليا، وهولندا، وفرنسا، والنمسا، والمجر، وسلوفاكيا، ويحتلون المركز الثاني في ألمانيا والسويد.

اليوم، هناك مجموعتان يمينيتان متشددتان في البرلمان الأوروبي، حزب الهوية والديمقراطية، وكتلة المحافظين والإصلاحيين. ومن الممكن أن تحصلا معاً على حوالي 25% من الأصوات في الانتخابات. ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه الفصائل، في كل جزء من أوروبا تقريباً، بما في ذلك بريطانيا، تعمل على فرض سلطة أحزاب يمين الوسط التقليدية، التي تستسلم الواحد تلو الآخر لمواقف أكثر تطرفاً مناهضة للهجرة والتجارة والبيئة.

والتحول نحو اليمين هو بطبيعة الحال ظاهرة غربية وليست أوروبية فقط، حيث يواصل ترامب، في حملته الانتخابية، الدعوة إلى أجندة حمائية وقومية أكثر شراسة من تلك التي فرضها عندما كان في البيت الأبيض.

لكن الفارق يكمن في أن الاقتصاد الأمريكي يتقدم إلى الأمام، حتى ولو لم يشعر الناخب الأمريكي العادي بالفوائد الكاملة لذلك، في حين لاتزال أوروبا، خاصة محركها الصناعي ألمانيا، تعاني نمواً يقترب من الصفر وركوداً في مستويات المعيشة.

وبعد أن عانت القارة عقداً من النمو المنخفض المستمر، أصبحت الآن منقسمة بين أقلية متفائلة ولكن متراجعة، متمسكة بتوقعاتها بأن المد المرتفع يرفع معه كل شيء، وأغلبية متنامية وأكثر تشاؤماً، ترى أن الحياة الآن مجرد لعبة محصلتها صفر.

أما الخيار الثالث فهو عقلية تدرك أن الكعكة الاقتصادية لا تنمو، وهو ما يقود الناس إلى استنتاج خاطئ مفاده: «لن يكون أدائي جيداً إلا إذا كان أداء شخص آخر سيئاً». وبمجرد تبني وجهة النظر العدائية هذه، يصبح من الصعب التخلص منها.

والأدلة الداعمة واضحة، ففي أكبر دول أوروبا الغربية، يشعر أغلبية الناس بالتشاؤم بشأن مستقبلهم، معتقدين أن جيلهم سيكون أداؤه أسوأ من أداء آبائهم. إذ يعتقد 26% فقط من الفرنسيين و33% فقط من الإيطاليين أن أداءهم سيكون أفضل في المستقبل، وفقاً لاستطلاع أجرته شركة «فوكال داتا» في سبع دول. وفي هولندا وألمانيا، هناك قدر كبير من التشاؤم يفوق التفاؤل. وبينما تتصدر إيرلندا والسويد ترتيب دول القارة من حيث التفاؤل، يشعر ما بين 40% إلى 46% فقط من السكان هناك أنهم سيحققون نتائج أفضل، في حين أبدى 35% إلى 39% منهم وجهة نظر معاكسة.

واختبر القائمون على استطلاعات الرأي أيضاً الافتراض الكلاسيكي ذا المحصلة الصفرية الذي يقول إنه لا يمكنك أن تحقق الثراء إلا على حساب الآخرين. وكانت النتائج في دول أوروبا الكبرى مذهلة، حيث يعتقد 59% من المشاركين البريطانيين أنهم لا يستطيعون تعزيز ثرواتهم الشخصية إلا إذا كان أداء الآخرين سيئاً، وتجاهل 17% فقط هذه الفكرة. وعلى نحو مماثل، في ألمانيا وهولندا، أيد 60% و58% على التوالي الرأي ذاته، مقارنة ب 16% و15% فقط رفضوه. وفي كل البلدان تقريباً، أظهر أكثر من 50% منهم عقلية المحصلة الصفرية تلك.

بالطبع، هناك أسباب وجيهة وراء ترسيخ هذه الاتجاهات. فالاقتصاد منخفض النمو يخلق حلقة سوداوية يولد خلالها التشاؤم ثقافة اللوم، أي كلما زاد إلقاء اللوم على الآخرين، أصبحنا أكثر تشاؤماً.

وبمجرد أن يقنع الناس أنفسهم بأن حالة اقتصادهم ضعيفة إلى الحد الذي يجعلهم غير قادرين على تحسين أحوالهم إلا على حساب شخص آخر، فإنهم يصوتون لصالح الأحزاب المتخصصة في استهداف أولئك الذين يعتقدون أنهم يعيقونهم، ونقصد هنا المهاجرين، والأجانب، والأقليات. مع أن هذه الأحزاب لا تطرح أي سياسات اقتصادية نافعة وضرورية لتوليد النمو طويل الأجل، ما يفاقم الاتجاهات الاقتصادية الهبوطية.

والمشكلة التي تواجه أوروبا الآن هي أن التدابير التي يتعين عليها تبنيها للهروب من الحلقة السوداوية هذه، كالاستثمار الجديد في التكنولوجيا والطاقة النظيفة والتقدم الطبي، أصبحت مستحيلة، والسبب يرجع لسياسة التقشف المالي التي تنتهجها القارة. ويستبعد ميثاق النمو والاستقرار الأوروبي أن يتجاوز العجز في الدول الأعضاء 3%، وربما على نفس القدر من الأهمية، فهو لا يميز بين الإنفاق العام على الاستهلاك وعلى الاستثمار.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ألمانيا لديها نظام كابح للديون منصوص عليه في دستورها يحد من العجز الهيكلي للحكومة إلى 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي. ويلقي هذا بظلاله على أوروبا بأكملها، حيث يواجه الشعب الألماني تخفيضات حادة في الإنفاق العام، تخفيضاتٌ من شأنها أن تنسف أي فرصة لإصلاح البنية التحتية المحاصرة في البلاد، وتحبط انتقالها من الهندسة الثقيلة إلى الصناعات القائمة على تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.

في الوقت الذي تحتاج فيه القارة إلى زيادة الاستثمارات، من المرجح أن تنخفض. ومن غير المتوقع أن تؤدي نتائج الانتخابات الأوروبية إلى تحسين الأمور. وقد تتهاوى مشاريع الاستثمار الخضراء الأساسية الواحد تلو الآخر من على طاولة الاجتماعات مع اكتساب الأحزاب المناهضة للبيئة اليد العليا.

* رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (ذا غارديان)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/42kr92cd

عن الكاتب

رئيس وزراء بريطانيا الأسبق

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"