حرب الصور والرموز

00:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

إنه انقلاب تاريخي متكامل الأركان. بقوة الصور والرموز تبدلت مشاعر وتغيرت أحوال بدت مستقرة وراسخة منذ تأسيس إسرائيل قبل ستة وسبعين عاماً.

لم يعد ممكناً تسويغ صورة الدولة الحديثة، واحة الديمقراطية في محيط عربي متخلف ومستبد، أو صورة الدولة الصغيرة المسالمة، التي يتربّص بوجودها ومستقبلها العرب بداعي «العداء للسامية».

ولا عاد ممكناً التجهيل بالمعاناة الفلسطينية الطويلة، تهجيراً قسرياً وفصلاً عنصرياً، أو إنكار أحقية شعبها في تقرير مصيره بنفسه.

ترسخت صورة إسرائيل السابقة بعاملين رئيسيين.

الأول، المكون الجوهري للدور الإسرائيلي في حسابات المصالح والاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط. والثاني، التجييش الدعائي لنموذج إسرائيل، التي نهضت من «الهولوكوست» إلى الدولة، وقد تكفلت وسائل الإعلام وهوليوود بتكريسه.

تبددت الدعايات وبقيت الحقائق. بقوة الصور والرموز أعادت القضية الفلسطينية تعريف نفسها كقضية إنسانية تستحق الدعم والإسناد وقضية تحرر وطني عادلة ومحقة لشعب رازح تحت الاحتلال يطلب حقه في الحرية.

في كل صورة مأساة إنسانية كاملة.. والصور واصلة برسائلها إلى الضمائر الحرة في العالم كله.

من عمق المأساة تبدّت موجات الغضب في الشوارع والجامعات الغربية داعية لوقف حرب الإبادة وعقاب إسرائيل على جرائمها بحق الإنسانية. كانت تلك هزيمة استراتيجية لإسرائيل في صورتها وأوزانها.

بات العلم الفلسطيني رمزاً سياسياً يرفع في كل مكان، والكوفية اكتسبت رمزيتها من عمق التضامن مع شعب يتمسك بأرضه تحت القصف الذي لا يتوقف.

بقدر المأساة المروعة التي نالت من أهالي غزة تشريداً وتقتيلاً وتجويعاً أخذت ردات الفعل مداها في العالم الغربي، وداخل أمريكا نفسها، حتى أصبحت قضية دولية لأول مرة في تاريخ انتخاباتها الرئاسية موضوعاً للاستقطاب قد يحسم نتائجها.

الضربات الموجعة توالت حتى وجدت إسرائيل نفسها بوضع الدولة «المنبوذة» و«المارقة»، التي تتهددها الملاحقات القضائية، أمام محكمتي «العدل الدولية» بتهمة الإبادة الجماعية و«الجنائية الدولية» بتهمة ارتكاب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها يواف غالانت جرائم حرب تستدعي استصدار مذكرة توقيف بحقهما.

رغم أن «الجنائية الدولية» وجّهت اتهامات مماثلة ل 3 من قيادات «حماس» يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية عن أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلا أن الضرر الإسرائيلي أفدح بما لا يقاس.

كان مثيراً للالتفات توحّد الصف السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أمام خطر الملاحقة «الجنائية الدولية»، لكنه كان شكلياً لا حقيقياً، فالانشقاقات الداخلية أخذت مستوى غير مسبوق والاتهامات المتبادلة وصلت إلى التشاتم بوقت حرب.

كما كان مثيراً للالتفات إدانة الولايات المتحدة لقرار المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان باعتباره «شائناً يساوي بين إسرائيل وجماعة إرهابية» بنص تصريحات جو بايدن.

الاتهام بنصه وحيثياته بدد صورة دأبت على ترديدها الدعايات الإسرائيلية بأن جيشها هو«الأكثر أخلاقية»، كما صورة أخرى أنها فوق القانون الدولي لا تخضع لحساب.

بالمقابل اعتبرت «حماس»، التي رحبت بالقرار في شقه الإسرائيلي، أن ما لحق بثلاثة من قادتها «يساوي بين الضحية والجلاد».

بالوقت نفسه أعلنت ثلاث دول أوروبية، النرويج وايرلندا وإسبانيا، عزمها الاعتراف المتزامن ب«الدولة الفلسطينية» في 28 مايو(ايار) الحالي.

لم يكن ذلك الاعتراف المتزامن من دول أوروبية جديداً أو غير معتاد أهميته من توقيته ورسائله. فهو- أولاً- يعمّق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، ويدعو إلى انضمام دول أخرى إليه باعتباره مدخلاً ضرورياً ل«حل الدولتين». وهو- ثانياً- يمثل تحدياً للولايات المتحدة، التي استخدمت حق النقض لإجهاض استصدار قرار من مجلس الأمن يعترف بالدولة الفلسطينية ويرفع مستوى تمثيلها في المنظمة الدولية. وهو- ثالثاً- تعبير عن قوة المجتمع المدني والرأي العام في الدول الثلاث، الذي يتبنّى إنصاف القضية الفلسطينية ووضع حد لحرب الإبادة على شعبها.

كان تلك هزيمة استراتيجية أخرى لإسرائيل من تبعات حرب الإبادة، التي تشنّها ويرجع الفضل الأول فيها إلى الصمود الفلسطيني الأسطوري فوق أرضه حتى لا تتكرر مرة أخرى نكبة التهجير القسري.

وقد تكفلت هيستريا حكومة نتنياهو وبن غفير وسيموتريتش على تعميق وطأة الهزيمة، حيث تبنّت فكرة عقاب أية دولة تعترف ب«الدولة الفلسطينية»، التي تصفها بأنها مكافأة للإرهاب!

أية فكرة من هذا النوع تستدعي بالضرورة تقوية التيار الشعبي الضاغط لفرض عقوبات أكاديمية وتسليحية واقتصادية على إسرائيل.

ثم تكفل قرار وزير الدفاع الإسرائيلي فك الارتباط في شمال الضفة الغربية بما يسمح بمزيد من التوسع الاستيطاني بتعميق إضافي لأزمة إسرائيل في عالمها وأمام حلفائها، الذين يتبنّون «حل الدولتين».

حسب تصريح أمريكي رسمي فإن ذلك القرار «خطير» و«متهور»، ثم لا شيء آخر!

إذا ما جرى إعادة بناء مستوطنات فوق أراض فلسطينية خاضعة للسلطة وفق «اتفاقية أوسلو» فإن أي كلام عن «حل الدولتين» يصبح لغواًَ!

بالتوقيت نفسه اقتحم بن غفير المسجد الأقصى بحماية الشرطة، كأنه دعوة مفتوحة لحرب دينية.

كان مستلفتاً وسط كل هذا الفشل السياسي توجّه الكونغرس الأمريكي لاستضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي، المتهم أمام الجنائية الدولية، لإلقاء خطاب أمامه في تحدٍ أفلت عياره.

إذا ما حدثت تلك الدعوة فإنها هزيمة استراتيجية وأخلاقية، لا يمكن التحكم في تبعاتها، سوف تلحق بالولايات المتحدة وصورتها أمام نفسها، كما العالم كله!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc7tprfu

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"