تتناثر نذر الحرب على لبنان، كأنها مقدمات لحرب إقليمية واسعة عواقبها «مدمرة» على ما يقول الأمريكيون.
حسب الجيش الإسرائيلي فإن قواته استكملت جاهزيتها، والخطط العملياتية جرى التصديق عليها، بانتظار أمر الهجوم الواسع على جنوب لبنان.
في نفس المشهد المنذر تلوح روادع حقيقية تجعل من الوصول إلى نقطة الانفجار حماقة كبرى تضرب الإقليم كله بصميم أمنه ومستقبله لسنوات طويلة مقبلة.
بين النذر والروادع كل سيناريو محتمل ووارد. بالنظر إلى الروادع، خارج الأوضاع الإسرائيلية وحساباتها المتناقضة، لن تكون هناك حرب.
أما إذا امتد النظر إلى الداخل الإسرائيلي فإن ما هو متعقل قد يخلي المجال كاملاً لما يشبه الجنون السياسي.
الوضع السياسي الإسرائيلي منقسم وهش، الجيش منهك ومأزوم، والنخبة العسكرية والأمنية تحذر من «انهيار استراتيجي» إذا لم تتوقف الحرب في ظل تآكل ما يطلقون عليه «الإنجازات في غزة».
مع ذلك كله تنحو الحكومة، التي توصف بأنها الأكثر يمينية منذ تأسيس الدولة العبرية، إلى توسيع نطاق الحرب حتى لا يقال: إنها سلمت بهزيمتها.
«إنهم مجموعة من المجانين الذين لا يصلحون لأي شيء»- بتعبير زعيم المعارضة«يائير لابيد، واصفاً الوزيرين المتطرفين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش ومن معهما.
الذريعة الرئيسية للحرب على لبنان: عودة الأمن إلى شمال إسرائيل وإعادة مئات آلاف النازحين إلى مستوطناتهم، لكنهم لا يطرحون على أنفسهم سؤالاً ضرورياً إذا ما كانت الحرب سوف تكون حلاً.. أم أنها سوف تفاقم المشكلة؟
بقوة الحقائق فإن الجبهة اللبنانية جبهة إسناد للمقاومة في غزة، إذا ما توقفت الحرب في غزة سوف تتوقف بنفس اللحظة الاشتباكات على الحدود الشمالية.
المعضلة هنا أن خطة بايدن لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن تكاد أن تكون قد تلاشت، باستثناء آمال شحيحة.
بالنسبة لبنيامين نتنياهو فإن خيار الحرب مع لبنان يساعده على البقاء في السلطة ودفع الإدارة الأمريكية المهزوزة للاصطفاف معه، أياً كانت العواقب.
وبالنسبة إلى جبهة لبنان فإنها لا تطلب الحرب، لكنها مستعدة ومتأهبة لمواجهات طويلة وموجعة مع إسرائيل.
تخشى الولايات المتحدة أن يفضي توسيع الحرب إلى فوضى إقليمية واسعة تضر بمصالحها الاستراتيجية والإضرار الفادح بالدور الوظيفي، الذي تلعبه إسرائيل، في الاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط.
وتخشى أكثر أن تجر إلى ما لا تريده بفائض عجزها أمام مزايدات الجمهوريين قبل الانتخابات الرئاسية الوشيكة.
البنتاغون لا يخفي قلقه حيال الوضع على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية داعياً إلى ما أسماه «حل التوترات».. والخارجية الأمريكية تؤكد الارتباط بين ذلك التوتر المنذر والحرب في غزة، فإذا ما حلت الثانية أنهيت الأولى.
نفس الاستنتاج الذي يتبناه كافة اللاعبين الإقليميين بلا استثناء واحد!
في فوضى الارتباك الأمريكي تراجعت قدرتها على الردع. هذه حقيقة تؤكدها الخارجية الأمريكية التي أعلنت أن أمن إسرائيل «مسألة مقدسة»، كأنها رسالة طمأنة بالوقوف معها حتى لو دفعت الإقليم كله إلى هاوية المجهول!
فقد الرادع الأمريكي هيبته. هذه حقيقة ماثلة رغم أن مستشاراً للرئيس الأمريكي عاموس هوكستين زارالمنطقة لخفض التصعيد، من دون أن يكون له فعل مؤثر.
الأسوأ أنه وجد نفسه طرفاً في ملاسنات أمريكية إسرائيلية حول حقيقة حجب شحنات الأسلحة، واصفاً تصريحات نتنياهو بأنها كاذبة!
تلك الملاسنات في توقيتها وطبيعتها تعبير عن فجوة ثقة كبيرة تفصل بين نتنياهو وبايدن.
الأول، أرجع عدم قدرته على حسم الحرب وتحقيق «النصر المطلق» إلى حجب إمدادات السلاح عنه مقارناً نفسه بونستون تشرشل الذي قال للأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية: «أعطونا المعدات وسوف نتكفل بالمهمة»!
والثاني، اتهمه عبر مستشاريه والمتحدثين باسمه بالجحود ونكران الجميل، حيث وقف مع إسرائيل، كما لم يفعل أي رئيس أمريكي آخر.
على نحو صريح ومباشر تحولت دفة الملاسنات من حقيقة حجب صفقات السلاح إلى التدخل شريكاً مع الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
بدا مأزق بايدن مستحكماً وموقفه مهزوزاً. فهو يريد أن يركب جوادين في وقت واحد، دعم اللوبيات اليهودية في حملته الانتخابية، وتحسين صورته أمام القطاعات الشابة في المجتمع الأمريكي والجاليات العربية والإسلامية التي تناهض الحرب على غزة وتتهمه بالتورط فيها.
يؤرقه سؤال إذا ما كان سوف يقابل نتنياهو عند زيارته المنتظرة إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام الكونغرس من دون أن يقرر شيئاً حتى الآن!
بنفس الوقت احتلت الحيز العام في إسرائيل ملاسنات أخرى بين بن غفير ونتنياهو عبرت عن عمق الأزمة الحكومية التي قد تزكي مغامرة الحرب في لبنان.
الأول، يطلب أن يكون طرفاً مباشراً في إدارة الحرب من دون خبرة سياسية، أو عسكرية. والثاني، يمانع خشية أن يتحول مجلس الحرب قبل حله إلى سيرك تنشر أسراره بالعلن.
كان قرار نتنياهو إنشاء مجموعة وزارية أمنية مصغرة تضم بن غفير محاولة في الوقت بدل الضائع لامتصاص الأزمة، لكنها بدت كاشفة لمدى صلاحية المستوى السياسي كله للبت في مسائل بالغة الخطورة كالحرب على لبنان.
الأوضاع السياسية الهشة في إسرائيل يفترض أن تردع أية مغامرة لتوسيع نطاق الحرب، لكنها قد تدفع بالمفارقة إلى الإقدام عليها!