الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
في قصة موسى والمعلم، ذكرنا أن السلالة الثامنة عشرة الفرعونية المصرية قد وصلت إلى مرحلة من الضعف، حتى إن أجزاءً من الدولة المصرية قد تمّ احتلالها من قبل دول وأقوام آخرين، فمن الأقوام الآخرين، الكوش: وهم من أبناء كوش بن حام بن نوح، الذين سكنوا النوبة.
لم نستدل على تاريخ معيّن لوصول الكوشيين إلى النوبة، لكن علاقتهم بمدين كانت قوية، حيث كان أبناء عمهم من سبط يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، يسكنون مدين، والتي كانت تعتبر ملتقى التجارة من كل الجهات الأربع، فمن الشرق كان الطريق للقادم من البصرة، ومن الشمال من الشام، ومن الجنوب من اليمن، ومن الغرب كان الطريق للوارد من مصر وكذلك ميناء إيلات، الذي ترد إليه كل منتجات البحر الأحمر ومنه كانت معظم البضائع تشحن إلى موانئ البحر الأحمر.
في مصر كانت السلالة الثامنة عشرة في آخر أيامها، وقد ضاع منها كثير من بقاع مصر، وخاصة بلاد النوبة، حيث سيطر حكام الكوش على النوبة، ونجحوا في بسط نفوذهم على بلاد النوبة السفلى، حتى أسوان.
فيما بين العام 1314 و1312 قبل الميلاد، برز مؤسس السلالة التاسعة عشرة ويدعى «رعمسيس»، وأول عمل قام به هو التوجه إلى النوبة، وطرد الكوشيين من تلك المناطق.
كان الكوشيون بدون زعامة حيث قتل حكامهم، وليس أمامهم إلّا البحر، وإذا بذلك الرجل الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليه، إنه شعيب، بأن يوجه قومه إلى مدين، حيث أبناء عمومته، فأمر قومه أن يعبروا البحر إلى الجزيرة العربية، فركبوا السفن والزوارق وجذوع الشجر، وأخذوا يجدفون تجاه الجزيرة العربية.
قبالة الفارين من القتل، تبرز جبال الجزيرة العربية، وهي ليست ببعيدة في تلك الأيام خاصة عند باب المندب، حيث إن الجزيرة العربية كانت أقرب للساحل الإفريقي، وكان يبعد عن الجزيرة العربية على مر الزمن، وكانت الجبال التي أمامهم يقال لها جبال السّراة، غربي صنعاء، وأعلى جبل فيها يعتبر أعلى قمة في الجزيرة العربية حيث يبلغ ارتفاعها 3.760م.
كان شعيب يوجههم تجاه ذلك الجبل العالي، حيث وصل جميع الفارين من القتل إليه. أطلق على ذلك الجبل فيما بعد: حضور النبي شعيب.
استقر الكوش في اليمن، وقد سطرت حولهم حكايات، أما شعيب فقد بعثه الله سبحانه وتعالى إلى قوم مدين، الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
قال الله سبحانه وتعالى:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)، (سورة الأعراف، الآيات 85-87).
وقوله سبحانه وتعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً.
أي: إلى قوم مدين وكَّلهم شعيباً (وَكَّلَ اللهُ سبحانه وتعالى شعيباً قومَ مدين).
وَكَّلَ: سلمه وفوضه.
وكَّل: جعله وكيلاً له قائماً بالأمر نيابة عنه.
بعد أن أخذ شعيب يناصح قوم مدين، هددوه بأنهم سيخرجونه ومن آمنوا معه من مدينة مدين.
قال الله سبحانه وتعالى:
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90)، (سورة الأعراف، الآيات 88-90).
فوقعت الرجفة أي الزلزال، وأصبح أهل مدين جاثمين أي ملبدين بالأرض بعد أن فارقوا الحياة.
قال الله سبحانه وتعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)، (سورة الأعراف الآيات 91-92).
بعد أن شاهد شعيب ومن آمن معه ذلك المنظر خرجوا من مدينة مدين.
قال الله سبحانه وتعالى:
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)، (سورة الأعراف، الآية 93).
بعد أن خرج شعيب ومن آمن معه من مدين، توجهوا إلى البادية وأقاموا هناك.
في العام 1300 قبل الميلاد، كان الحكام في مصر هم فراعنة السلالة التاسعة عشرة، وفي تلك السنة كان الفرعون «ابن سيتي» حفيد «رعمسيس»، مؤسس حكم السلالة التاسعة عشرة، بعد أن طرد آخر فرعون من السلالة الثامنة عشرة، والذي تربى موسى في قصره في العام 1314 قبل الميلاد.
في العام 1300 قبل الميلاد، كانت مدينة منف عاصمة مصر، وكان مقر الفرعون في أقصى المدينة، حيث كان في ذات يوم أن اجتمع الفرعون، «ابن سيتي» للتشاور مع جماعة القوم، في قضية مقتل رجل في مدينة منف، وأن القاتل هو موسى الذي تربى في قصر فرعون، والذي تمّ طرده من الحكم على يد «رعمسيس» جد «ابن سيتي».
ولوجود العداوة، فقد تمّ الاتفاق على قتل موسى.
قال الله سبحانه وتعالى:
وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)، (سورة القصص، الآية 20).
الرجل: هو واحد من جماعة القوم، المجتمعين مع الفرعون.
يسعى: يمشي ويهرول للإسراع بإعلام موسى بالأمر.
بعد أن خرج موسى، التفت ذلك الرجل إلى القوم الذين كانوا محتشدين حول موسى، وخاطبهم.
قال الله سبحانه وتعالى:
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)، (سورة يس، الآيات 20-27).
ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الرجل في سورة يس، حيث وصفه بصفة الأنبياء موسى وهارون.
قال الله سبحانه وتعالى:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19)، (سورة يس، الآيات 13-19).
خرج موسى من مصر تلقاء مدين.
قال الله سبحانه وتعالى:
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)، (سورة القصص، الآيات 21-28).
الشيخ الكبير هو شعيب.