لم يكن مستغرباً أن يتجرأ «الكنيست» الإسرائيلي ويقر حظر أنشطة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، بعد أشهر طويلة من التحريض والاستهداف والقتل الذي طال الوكالة الأممية ورموزها ومنشآتها وموظفيها في قطاع غزة، حيث حرب الإبادة لا تزال على أشدها بلا رادع.
طوال أكثر من عام برعت إسرائيل في تسجيل السوابق الخطرة، فقد دمرت غزة وقتلت عشرات الآلاف من أبنائها وشردت كل سكانها، ووسعت العدوان والاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وشنت هجمات تحريضية على الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريش وتجاهلت نداءات مجلس الأمن وأوامر محكمة العدل الدولية، واستهدفت قوات «اليونيفيل» في لبنان، وها هي تمضي في مخططها المتطرف لتصفية القضية الفلسطينية والدفع بالشرق الأوسط كله إلى أتون صراع مدمر وأزمات لا تنتهي.
كل المواقف الدولية تؤكد أن ما تفعله إسرائيل تجاوز لكل الحدود المحتملة، ومن يقود هذه السياسة إما أنه محكوم برؤية متطرفة تصور له أنه يمتلك قوة أسطورية خارقة لكل الضوابط والنواميس، وإما أنه بلغ حالة من الإفلاس السياسي والوجودي قادته إلى درجة من الجنون لا تسمح له بإدراك مخالب الورطة الاستراتيجية التي تطوقه من كل جانب، ولا يعي العواقب المريرة التي تنتظره في مقبل الأشهر والسنوات. وأغلب الظن أن الحالة الثانية هي التي تسيطر على إسرائيل وحكومتها المتطرفة، وأن غطرسة القوة، التي تتباهى بها، حالة لن تدوم ولن تستمر إلى الأبد. وكم في التاريخ المعاصر والقديم من عبر ودروس وتجارب لقوى طغت وتجبرت، وكانت نهايتها الضعف والهوان.
استهداف «الأونروا» انتهاك آخر ترتكبه إسرائيل، وإن كانت بعض المواقف قد اعتبرت هذا التجاوز اغتيالاً للوكالة الأممية، إلا أن ما تفعله الآلة السياسية والعسكرية لتل أبيب هو اغتيال ممنهج للنظام الدولي الذي أوجدها قبل نحو ثمانين عاماً، والمؤسف في الأمر أن المجتمع الدولي يتصنع العجز والشلل لعدم مواجهة كل السياسات الإسرائيلية. ومثل هذا الخذلان الخطر يؤكد أن النظام الدولي، الذي استأسد في مناطق أخرى من العالم، لم يعد له صوت أو وجود ولا قدرة على حفظ سمعته وهيبته، وإذا صمت على قتل «الأونروا» فلن يكون قادراً على فعل شيء مستقبلاً أمام جريمة أشد وأكبر، هي اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه وتهجيره وإلغاء أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة، مثلما عرض مؤخراً وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي يعبر عن تيار طاغ لا يعترف بأي شيء إلا ما تصوره له نوازعه وأفكاره المنحرفة.
ضمن هذه الرؤية العنصرية، كان القرار بحظر «الأونروا»، وهي خطوة تم العمل عليها لسنوات، وقد جاءت في هذا التوقيت لتحقيق هدفين، الأول آنٍ يتمثل في قطع أذرع الاستجابة الإنسانية في غزة لتسريع الحسم العسكري، الذي تعذر، وبدء خطة التهجير والاستيطان، والثاني بعيد المدى ويرمي إلى مصادرة مستقبل ملايين الفلسطينيين خصوصاً في القدس والضفة الغربية والشتات. وإزاء كل هذا الوضوح، لم يبق أمام المجتمع الدولي غير الاستغراق في صمته وعجزه، أو ينتفض ليس نصرة للفلسطينيين وإنما للأمم المتحدة والنظام الدولي المهددين بالتصفية أيضاً.
[email protected]
https://tinyurl.com/ymnj9bht