المصطلح بين الغياب والحضور

00:23 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

الحديث عن المصطلح أكاديمياً وثقافياً سيتبعه حديث في السياسة، صحيح أن هناك مصطلحات ثقافية أكاديمية بحتة، إلا أن جذورها سياسية، فكل أمر يخرج عن إطار الفرد نحو الجماعة يدخل في إطار إدارة الجماعة أو الشعب، وهذه الأخيرة تحمل هواجس سياسية عديدة مهما لوّنها الفلاسفة ووضعوها في سياقات مختلفة ومتباينة، فمنشأ المصطلح الأصلي ديني ثم تشعّب مع تطوّر المجتمعات وأنظمة الحكم، فالبعض تجرّأ فلسفياً وفصله عن الدين، وآخرون احتفظوا بالمرجعية لأسباب منهجية، وبالتالي خضعت المصطلحات، كل المصطلحات، إما للتغيير أو التجاهل أو الاندثار، وبقيت تلك المتعلّقة بالاختصاصات، وإذا جمعنا تلك الاختصاصات في دائرة واحدة، سنجدها تتآلف وتتجاذب وتتداخل مع بعضها بعضاً.
ويجب أن نذكّر أن الحديث في المصطلح السياسي هو حديث عن المجتمعات التي تشكّل الدّول. ومع تغيّر المجتمعات وتطوّرها وتغيّر أو تطوّر الأنظمة، تغيّرت المفاهيم ذات الصلة بالمصطلحات. لكن ما يثير دهشة المفكّر أو المتأمّل هو غياب عدد من المفردات/ المصطلحات، مع بقاء أنظمة الدول التي كانت توصف بها على حالها. ويجب أن نتدارك ونقول إننا حين نتحدث عن الدول العربية، أو العالم العربي، من ناحية الأنظمة والتنمية والمسارات السياسية، علينا استبعاد دول مجلس التعاون الخليجي وأخذها كحزمة متكاملة، لأنها شكّلت نموذجاً للتغيير الهادئ والتنمية المستدامة، بل حقّقت تطوّراً سياسياً لم يكن الباحثون يتوقعونه، سيما أن هذه الأنظمة هي أنظمة قبلية وعشائرية تقودها أسر حاكمة منذ عشرات السنين.
وهذا يثير موضوعاً بالغ الحساسية، إذ كان يُنظر لهذه الأنظمة نظرة مختلفة فيها الكثير من سوء الفهم للطبيعة البشرية والبيئية والجغرافية والأسرية، فإذا بها، أي الأنظمة، تحقّق معدلات نمو سريعة ونوعية حتى باتت وجهة مفضّلة لأصحاب العمل والمستثمرين والسياح والباحثين عن حياة آمنة ومستقرة، والأكثر من ذلك، مجتمعات محكومة بقوة القانون، أي تحقّقت فيها العدالة في أجمل صورها، وهذا يعود إلى تطوير القوانين لتراعي الثقافات الوافدة الطامحة إلى العمل والبقاء والإقامة والعيش الكريم، فلم يعد نظام الحكم الأسري مستهجناً، إنما له فضائل كثيرة، بل في أحيان كثيرة، يعتقد كثيرون أنه هو المطلوب لانسجامه مع الشخصية العربية التي تتمتع بامتدادات عائلية وقبلية وعشائرية، والأغرب من ذلك أن هذه المكوّنات المجتمعية اقتنعت بضرورة العيش تحت سلطة القانون، حتى بات الأمر عادياً وأسلوب حياة. واستبعاد دول مجلس التعاون الخليجي يتم بشكل علمي ولا علاقة له بأي معنى عنصري أو انحيازي أو تمييزي.
قبل أكثر من خمسين سنة، درجت مصطلحات مثل (الرجعية) و(الإمبريالية) و(البرجوازية)، فالرجعية تصف المجتمعات التي لا تؤيد القضية الفلسطينية، حيث كانت فلسطين هي المعيار الرئيسي، وكان مصطلح (رجعي) هو الإنسان المتخلّف غير المتحرّر الذي لا يؤمن بحرية المرأة والفرد والمجتمع، ويطبّق عادات وتقاليد (عفنة)، ويسير وفق أعراف قديمة لا تصلح للزمن المتحرّر الثوري. والإمبريالية مصطلح يصف الدول المناهضة للتحرّر أو الشعب الفلسطيني، وكانت الولايات المتحدة عادة ما توصَف بالإمبريالية، ومعها الدول التي تدعم إسرائيل.
ولم يكن الأفراد وحدهم من يردّد هذه المصطلحات، إنما الخطاب السياسي لعدد من الدول كان مليئاً بها، ومن الأحزاب التي كانت ترددها بشكل رئيسي نذكر حزب البعث في أماكنه، والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني، والقومية العربية. ومن يعود إلى أرشيف الأخبار والمقالات في ستينات وسبعينات القرن الماضي، سيجدها تغص بتلك المصطلحات، إضافة إلى مصطلح (الاستعمار)، وكذلك مصطلح (الخونة) الذي كان يُطلق على كل من يعارض ذاك الخطاب (الثوري القومي الشيوعي البعثي). ومن المدهش حقاً أن تلك المصطلحات اختفت تقريباً، بينما كانت لا تزال الأنظمة على حالها، لم تتحرّر، لم تتطوّر، لم تنتصر على الاستعمار والرجعية والإمبريالية، وهذا ما لم يتناوله الدارسون في أطاريحهم الأكاديمية أو المقالات الصحفية المحكّمة وغير المحكّمة.
لقد اختفت تلك المصطلحات مع حلول مصطلحات جديدة أكثر إرباكاً، مثل (الإرهاب)، هذا المصطلح الذي لم يقدّم أحدٌ حتى الآن تعريفاً واضحاً وناضجاً له، رغم أنه ارتبط في فترة من الفترات بالإسلام، وهو أمر مريب وعجيب. ويُلاحظ أن المصطلح ذاته (الإرهاب) قد تراجع استخدامه في السنوات العشر الأخيرة، بينما لم يتم القضاء على (الإرهاب) الذي كانوا يحاربونه، وهو موقف أممي فكري يثير العجب.
لقد استوردت الأحزاب العربية، التي حكمت بعض الدول، مصطلحاتها من الخارج، وغالباً من المنظومة الاشتراكية والشيوعية، من الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية وفيتنام وغيرها، وتم استيراد مصطلح (الإرهاب) من الغرب. ويلاحظ أن المصطلحات القادمة من (المعسكر الاشتراكي) غابت مع تفكيك الاتحاد السوفييتي، والمصطلحات القادمة من (المعسكر الغربي) غابت، بينما لا تزال المنظومة الغربية التي صدّرته موجودة، لم تتفكك ولم تتغيّر!!
لقد حلّت مصطلحات سياسية جديدة في الخطاب السياسي، مصطلحات عامة، مثل النظام العالمي الجديد، والعولمة، والعلمانية، وغيرها، وهذه أيضاً تراجع وهجها، بينما لم يتشكّل أي نظام عالمي جديد. وباختصار، لا تزال الرجعية موجودة، والإمبريالية والاستعمار بشكل أو بآخر، بينما غاب المصطلح، فمن الذي يصوغ هذه المصطلحات، ومن الذي يطمسها.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"