مدن محمود درويش

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

كتب محمود درويش «أثر الفراشة» على شكل يوميات، وهو وضع عبارة شارحة لكتابه هذا تقول: «صفحات من يوميات كُتبت بين صيف 2006 وصيف 2007»، أي أنها جاءت في عام واحد، وإذا كانت كتابة اليوميات بطبيعتها الفنية تحمل الكثير من المذكرات، فيوميات درويش تنحو إلى كونها قصائد مكثّفة في لغة مواربة في النثر، وعند درويش كل شيء شعر: النثر والحياة والمزاح والسخرية بإيقاع كلامه السريع والموجز وصوته القويّ، الذي يخبّئ خلفه دائماً شيئاً من شخصيته الحاسمة.
في عام 1995، زرت تونس ضمن عدد من الشعراء العرب، لتلتقي هذه المجموعة العربية الشعرية في طائرة واحدة، وحين خرجت من المطار اقترح درويش أن أصطحبه في سيارة ضيافة خاصة كانت تنتظره، وفي المقعد الخلفي للسيارة، كان يسألني: أتزور تونس للمرة الأولى؟ قلت له: أجل. قال، إذن، عليك أن تصغي في المساء إلى سيمفونية الطيور قبيل الغروب في شارع بورقيبة، حيث تأوي إلى أشجار الشارع آلاف الطيور، وتعزف هنا سيمفونيتها قبل أن تنام.
عدت إلى «أثر الفراشة» لأجد أربع مدن كتب عنها درويش في نصوصه العذبة التي تتجاوز المئة نص يومي مؤثث دائماً بالشعر.
في قرطبة، يرى محمود درويش نُصباً لابن زيدون وولّادة، فيسأل مرافقه وصديقه الشاعر ديريك ولكوت إن كان يعرف شيئاً عن الشعر العربي، فيقول ولكوت: لا شيء. ويضيف درويش أنهما أمضيا ثلاثة أيام في قرطبة لم يتوقفا خلالها عن الضحك والسخرية من الشعر والشعراء الذين وصفهم بأنهم لصوص استعارات. يقول درويش: سألني ولكوت: كم استعارة سَرَقْتَ؟ فيخفق في الجواب كما يقول، ويضيف أنه وصديقه الشاعر تباريا في مغازلة القرطبيات «وعلى قدر جمال كل امرأة تكون جرأة الشاعر».
في مدريد يقول درويش، إنه يجلس والشاعر الكندي الأمريكي مارك ستراند على مقعد خشبي لالتقاط الصور مع الطلبة والطالبات «للتوقيع على كتبنا المترجمة إلى الإسبانية.. نتبارى في إخفاء فرح الشاعر بقارئه المجهول.. غير المتوقَّع. اقتربت سيدة أنيقة مني، وقالت: أنا حفيدة لوركا، فعانقتها لأشم ما تسرب من ذراعيه إليها».
وفي الرباط، المدينة التي يصفها درويش بأنها المرفوعة على أمواج الأطلسي العالية يمشي الشاعر في الشارع «بحثاً عن مصادقة المعنى، وعن معنى المصادقة..».
أما بيروت درويش، فهي محرومة من نسيان جرحها ومحرومة من تذكر غدها المتروك لرمية نرد في لعبة بلا قواعد، كتجريبية شعر ما بعد الحداثة في مقاهيها الخالية من الرواد.
محمود درويش شاعر مدن يعرفها من أحشائها.. على الرغم من أنه ليس شاعر مقاهٍ وأرصفة. لا هو شاعر ليل ولا شاعر نهار. محمود درويش ونقطة آخر السطر.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"