ضرائب ترامب ومستقبل التجارة الدولية

00:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. خليل حسين*

أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زلزالاً مالياً واقتصادياً، سيترك آثاراً مرعبة في الاقتصادات الدولية والتجارية والمالية، علاوة على ضرب فلسفة النيوليبرالية التي روجت لها الأوساط الأمريكية بعيد الحرب العالمية الثانية.
لقد تم تركيز هذا السياق في بيئات مؤسساتية دولية ذات وزن عال، من بينها منظمة التجارة العالمية، التي قادت عملياً تنظيم التجارات الدولية بشكل يؤدي إلى إشاعة مبدأ إلغاء الحمايات الجمركية التي عادة ما تحرص الدول على التمسك بها، في محاولة لحماية منتجاتها وتنظيم صادراتها ووارداتها.
طبعاً من البديهي، أن تمارس الولايات المتحدة حقها الطبيعي في الحفاظ على أعلى مستويات الحماية لاقتصادها، وسط منافسات تجارية لم تعد تمارس بوسائل تقليدية كما كان شائعاً في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى إن أنواع وسلع التبادل التجاري قد تغيرت، ودخلت ضمنه منتجات لم تكن موجودة سابقاً، بدءاً ببيئة التطور التكنولوجي، وليس انتهاء بالعملات الرقمية، علاوة على الكثير من القضايا التي دخلت في تفاصيل البناء التجاري الدولي، الأمر الذي أنشأ مفاهيم جديدة لكيفية التعاطي مع المشكلات الدولية القائمة ومحاولة البحث عن حلول قابلة للتنفيذ من دون التأثير الكبير والمباشر، ومن دون ترك تداعيات يصعب احتواؤها.
وفي الواقع، عند التدقيق في مسار الحماية الجمركية الذي أعلنه الرئيس ترامب مؤخراً، يتبين في الكثير من جوانبه، أنه شديد التأثير، بحيث لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من استيعاب آثاره الداخلية أولاً قبل الدولية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تكبدت البورصات الأمريكية خسائر فادحة، دون وجود حد أدنى من تصورات الحلول الممكنة، ذلك باعتبار أن المستهدف بذلك هي بيئات خارجية، وإن امتلكت واشنطن الكثير من الأدوات التي تجبر الأطراف المستهدفة على هضم القرارات والمضي فيها، إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، فطريقة التعاطي الأولى مع الإعلان، كانت شديدة الرفض، إضافة إلى الدعوة للرد بوسائل مماثلة تصل إلى حد التمرد، وهو أمر لم تتعود واشنطن عليه في كثير من المراحل.
إن رفع الضرائب والرسوم الجمركية بنسب مختلفة وبمروحة واسعة شملت معظم الكيانات الدولية، بما فيها الدول التي لا تشكل صادراتها إلى الولايات المتحدة أحجاماً ذات وزن عال، بينما لوحظ أيضاً أن هذه الإجراءات شملت جزراً ومقاطعات جغرافية لا وجود لعلاقات تجارية معها، وفي معرض التندر على الإجراءات الأمريكية ما طال بعض الجزر النائية في القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي حيث لا يعيش فيها سوى طيور البطريق.
وبصرف النظر عن الكيفية التي تناقش أو تطلق فيها الأمور المتصلة بهذه الإجراءات، فإن الاستفادة الأمريكية وبحسب الكثير من الخبراء، لن تُدر على الولايات المتحدة ما تطمح إليه، بل إن البعض يرى أن السلبيات كثيرة والتداعيات متنوعة ومؤذية في أحيان كثيرة.
لقد تمكنت منظمة التجارة العالمية من إرساء قواعد وأعراف دولية خلال العقود الثمانية السابقة تجعل من الصعب تجاوزها وإعادة النظر فيها، لجهة حرية الدول المطلقة في إرساء قواعد لا تتناسب أو تتماثل مع ما أرسته من قواعد على مستوى التبادل التجاري الدولي، لاسيما وأن طموح المنظمة يصل إلى حد إلغاء الحمايات الجمركية للدول، وترك التبادل التجاري مفتوحاً من دون أي حواجز أو معوقات، وهذا ما حاولت واشنطن تحديداً السير عليه في الحقب السابقة.
لقد واجهت الولايات المتحدة اعتراضاً شديداً من أقرب حلفائها ومن بينهم الأوروبيون تحديداً، حيث تمت الدعوة لاتخاذ إجراءات مقابلة، وهي المرة الأولى التي تصل إلى هذا المستوى، وبخاصة من بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال، علاوة على بعض الدول الأخرى كالصين وروسيا والهند والعديد من الدول المنضمة إلى منظمات تجارية ذات مستوى رفيع كمنظمة «النافتا» التي تضم إضافة إلى الولايات المتحدة كندا والمكسيك، حيث سقف الرفض والانتقاد الكندي بدا غير مسبوق، لاسيما وأن الرئيس ترامب لم يتوان عن الدعوة إلى ضم كندا واعتبارها الولاية الواحدة والخمسين.
إن تداعيات القرار الأمريكي لا تقل ارتداداتها عن الانهيارات المالية والاقتصادية الدولية التي ظهرت في العقود السابقة التي ضربت الولايات المتحدة تحديداً، بدءاً من أزمة 1929 وليس انتهاء بأزمة 2008، حيث عانت الوليات المتحدة في مؤسساتها العامة والخاصة تداعيات تركت بصمات مؤذية على الاقتصادات المحلية والدولية.
إن القرار التنفيذي الذي أطلقه الرئيس ترامب، بدا كمن يطلق الرصاص على قدمه، وهذا ما ظهر بشكل واضح في اليومين الأولين، عبر الخسائر غير المسبوقة في تعاملات البورصات، وهو أمر لم يكن متوقعاً أن يكون بهذا المستوى والحجم، خاصة أن الاقتصاد الأمريكي والتبادلات التجارية عالميان بكل معنى الكلمة، وليسا محصورين بنطاق وطني أو إقليمي محدد، فتداعيات القرار وارتداداته ستتوالى لتشكل أزمات دولية تنقل الساحة من صراعات تجارية واقتصادية إلى صراعات عسكرية. ربما يبدو الاحتمال الثاني أكثر رجاحة، بعدما ظلت الصراعات التجارية بديلاً عن الصراعات والحروب لعقود خلت.

* رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"