د. منصور جاسم الشامسي *
رفع حجم الإنفاق العسكري الأوروبي أمر مقلق لأنه يعني «تسلح» و«إعادة تسليح» و«عسكرة جديدة» لأوروبا، و«اقتصاد حرب» يؤدي لحروب، وحل الخلافات بالقوة، وتقليص فرص السلام، ووقف البرامج التنموية والإنمائية أو الحد منها، ويدفع لبناء تكتلات عسكرية إقليمية وعالمية مضادة، ولسباق تسلح، وبالتالي فهو مزعزع للأمن السلمي والحر والمستقر، ومهدد للأمن والاستقرار التعاوني الإقليمي والعالمي الشامل، في المديين المنظور والبعيد.
الغرب الأوروبي خلص منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تراجيديا الحروب وعدميتها وعبثيتها ودمارها الشامل وعدم جدواها في حلّ النزاعات والصراعات، ولكنه يعود إلى «سياسة عسكرة جديدة» وخطاب أوروبي عام سائد تهيمن عليه الحرب، وهناك من يحرّضه على ذلك.
فقد عقدت دول الاتحاد الأوروبي قمة في بروكسل في 6 مارس/ آذار 2025 لأجل تعبئة نحو 800 مليار يورو على مدى السنوات الأربعة المقبلة من أجل «إعادة تسليح أوروبا»، كما قدمت المفوضية الأوروبية والممثل السامي في 19 مارس/ آذار 2025 كتاباً أبيض للدفاع الأوروبي - الاستعداد لعام 2030، كجزء من خطة إعادة تسليح أوروبا، وحزمة دفاعية طموحة توفر أدوات مالية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لدفع عجلة الاستثمار في القدرات العسكرية، تضمنت وسائل مالية جديدة مبتكرة وسبل الاستثمار في القطاع العسكري، ونظام يسمح بالاقتراض غير المحدود لأجل التسلح، رغم أن العديد من دول منطقة اليورو مثقلة بالديون.
ضخ الأموال والاستثمارات في الاتجاه العسكري يؤدي لتحويل الموارد عن القطاعات التعليمية والاجتماعية والزراعية والصحية والبيئية والسياحية والتصنيعية، وغيرها من قطاعات مدنية، ما يعني تراجع التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمستدامة، وهذا تهديد لمصالح الطبقة الوسطى والعاملة والأسر ذات الدخل المحدود في تأمين الحياة الجيدة، ويؤدي لعدم الاستقرار الاجتماعي وتهديد السلم المجتمعي، وتنامي قطاع الصناعات العسكرية الذي سوف يجذب له قوى العمل الأوروبية، ما يخلق تشابكاً في المصالح بينها وبين قطاع التصنيع الحربي، وهذا يخلق «نزعة عسكرية» في المجتمع، شبيهة بما حدث في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، حين تعاطفت الجماهير الإيطالية والألمانية مع الأحزاب الفاشستية والنازية ذات النزعات العسكرية والقومية المتطرفة والعنصرية، فصوتت لها، وجاءت بها للسلطة فزادت الإنفاق العسكري فارتفعت وتيرة التصنيع الحربي، فَجَرّت كل أوروبا للحرب.
والاستثمار في أدوات الحرب استنزاف لنظام الرفاه، وتهديد للديمقراطيات في المديين المنظور والأبعد، وتجاهل للمؤسسات الإنمائية الدولية والقانون الإنساني الدولي وتقويض له، ويؤدي إلى تآكل أُسسه تدريجياً.
أوروبا تواصل دعمها لاستمرار الحرب الأوكرانية – الروسية رغم سعي الولايات المتحدة للحل السلمي وتراجعها عن دعم أوكرانيا. أثناء الحرب الباردة كانت أوروبا تؤمن بتهديد الاتحاد السوفييتي لها، وبعد انهياره في 1991 صارت تؤمن بأن روسيا مهددة للأمن الأوروبي. في مارس/ آذار 2025 صرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته أن روسيا لا تزال «تمثل التهديد الأكثر خطورة» للحلف، داعياً حلفاءه إلى زيادة الإنفاق الدفاعي. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرح أيضاً بأن روسيا أصبحت «تهديداً لفرنسا وأوروبا».
هناك معارضة داخلية أوروبية ترجع جذورها إلى عام 1946 ضد «إعادة تسليح أوروبا». توجد حركة الاحتجاجات المناهضة للتسلح النووي في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية. ومؤخراً، قال زعيم «الوطنيون الفرنسيون» فلوريان فيليبو إن روسيا لا تشكل أي تهديد لفرنسا، وإن ذلك مجرد «خرافة دعائية» تهدف إلى نشر ثقافة الذعر والحرب.
وقد أدرك الرئيس الأمريكي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور (1952 – 1960)، قائد قوات الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، مخاطر «التسلح»، حين حذّر في خطابه الوداعي من تمدّد نفوذ المجمّع الصناعي العسكري الذي يجني أرباحاً هائلة من عقود التسليح والبحث والتطوير والتدريب، مع وزارة الدفاع في الولايات المتحدة وغيرها، تُمكّنه من اختراق الحياة السياسية وتمويل وشراء السياسيين والمسؤولين عن سياسات الدفاع.
فبدلاً من الاستثمار في الأسلحة، الأفضل الاستثمار في إنهاء الحروب بالجهود الدبلوماسية والسياسية، ومن خلال المشاريع التنموية؛ كتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي والعالمي، فلا تزال أوروبا، وغيرها من المناطق، كالشرق الأوسط، بحاجة إلى منصات لحل قضاياها الحيوية والوجودية والمصيرية؛ مثل: تنمية فرص العمل، وتوظيف الخريجين، وبناء أو تجديد البنية التحتية، والإعمار وإعادة الإعمار، وتعظيم فوائد التجارة المتبادلة والاستثمارات المشتركة، والرعاية الصحية، ورعاية المبدعين والباحثين والعلماء، وحل مشاكل مصادر الطاقة والمياه والغذاء وتلوث البيئة والتصحر والأمراض والهجرة والإسكان والديون، ومعالجة الآثار اللاحقة للحروب مثل سميّة وملوثات المعادن الثقيلة وتلوث اليورانيوم والرصاص الناجم عن قصف المدن، وتحسين الخدمات العامة، وتحقيق السلام الفعلي العادل. وذلك يحتاج لخطط محلية - إقليمية - دولية مشتركة وموارد مالية واستثمارات ضخمة.
أوروبا منذ عام 1500، حديثها دائم عن الصراعات، والصراعات المحتملة، والتهديدات، والحاجة إلى «الدفاع»، وبناء التحالفات العسكرية الإقليمية والعالمية، وحسم الخلاف بالحروب، وقد نتج عن «عسكرة أوروبا التاريخية» ظواهر «الاستعمار» و«الاستعمار الجديد» و«الإمبريالية» -السيئة السمعة - التي يكافحها القانون الدولي الإنساني ويعمل للقضاء عليها ومحو آثارها، والحد من التسلح ومن الأسلحة النووية ونزعها، والتخلي عن تطوير أسلحة جديدة، على المستويين الإقليمي والعالمي، وتطوير برامج ومبادرات السلام العالمي.
* باحث علمي - علوم سياسية/ تنمية بشرية
[email protected]