في يوم مشرق من أيام الثقافة العالمية، وفي رحاب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» في باريس، كان للعربية موعد مع المجد، وللتراث موعد مع الاحتفاء، ولصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لقاء جديد مع التاريخ، وهو يُكرّم عن منجز حضاري فريد، هو «المعجم التاريخي للغة العربية»، في مشهد يليق بمقامه، وبما قدّمه من عطاء لا يُحدّ في خدمة الثقافة والهوية واللغة.
ليس هذا التكريم إلا صفحة أخرى من كتاب مفتوح يخطّه سموه منذ عقود، عنوانه: «الثقافة سبيل الخلود، والعربية تاج الحضارة».
إنه تتويج رمزي وعالمي لجهد لا يعرف الكلل، وسعي لا يتوقف عن نبش الجذور واستجلاء المعاني وتأريخ المفردات، لتقف الأمم اليوم، شاهدة على مشروع فكري ومعرفي ضخم، بات مرجعاً علمياً وأكاديمياً لكل من أراد أن ينهل من معين اللغة العربية الصافي، ويقرأ في تضاريسها وجغرافيتها الفكرية مسيرة أمة وحضارة.
لم يكن حفل التكريم حدثاً بحد ذاته، بل كان لحظة تتويج لكفاح معرفي وإنساني طويل قاده سمو الحاكم بنفسه، حاملاً عبء اللغة ورسالة الثقافة، ومؤمناً بأن النهضة الحقيقية لا تُبنى إلا على أساس من الوعي التاريخي واللغوي.
لقد أدرك سموه، بعين العالم وبصيرة المؤرخ، أن اللغة العربية، رغم عظمتها وغناها، كانت تفتقر إلى مشروع علمي يؤرخ لمفرداتها ويكشف عن تطور دلالاتها عبر العصور، كما هو الحال في اللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية.
ومن هنا وُلد الحلم الكبير، حلم المعجم التاريخي، الذي لم يكن مجرد مبادرة ثقافية، بــــل كان ملحمة فكرية شارك في بنائها مئات اللغويين والباحثين من مختلف أنحاء الوطن العربي، تحت مظلة من التكامل والتآزر والإيمان برسالة اللغة.
وفي زمن تتعرّض فيه الهويات للذوبان، واللغات للتهميش، يقف سمو حاكم الشارقة كالربّان الذي يأبى أن يترك السفينة للضياع، متشبثاً بمرساة اللغة، وغارساً جذورها في عمق الوعي العربي والعالمي، مذكّراً الجميع أن «العدل الثقافي» يقتضي احترام كل اللغات، ورفض اختزال الإنسانية في نموذج لغوي واحد.
لقد جاء المعجم في 127 مجلداً ضخماً، فــــي نسخـــــــتيه الورقية والإلكترونية، حاملاً بين دفتيه روح الأمة، وتاريخ ألفاظها، وسيرة فكرها، منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث.
وهذا ليس مجرد رقم في موسوعة غينيس، بل شهادة خالدة على قدرة العرب، حين تتوحد الإرادة وتتضافر الجهود، على أن يبدعوا مشروعاً يُبهر العالم، ويرتقي بمكانة لغتهم إلى آفاق جديدة من التقدير والاحتضان الدولي.
ولأن الشارقة هي درة الثقافة، ومملكة الحرف، فقد كان من الطبيعي أن تكون هي الحاضن لهذا المشروع، والراعية له منذ انطلاقته، وأن تتكامل جهود مجمع اللغة العربية في الشارقة مع اتحاد المجامع العربية في القاهرة، ومع عشرات المؤسسات اللغوية والفكرية في الوطن العربي، في مشهد يعيد للعربية توازنها التاريخي ومكانتها الكونية.
إن ما فعله سموه من خلال هذا المعجم، هو أنه لم يُنجز كتاباً فحسب، بل أسّس لجسر معرفي يمتد بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والتحديث، بين التراث والعلوم الحديثة، بين اللغة العربية وسائر اللغات.
ولنا أن نتصور هذا العمل بعد عشرات السنين، حين يعود الباحثون إلى هذا المعجم، ليجدوا فيه مرآة عصر، وسيرة لغة، وإرث أمة.
سيذكرون أن هذا العمل لم يكن ثمرة مؤسسة واحدة، بل ثمرة رجلٍ واحد، آمن بلغته، واحتضن تاريخها، وأحياها من جديد، ليكون صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، بمسيرته حارس لغة، وناشر هوية، ومُلهِم أجيال.
إننا اليوم، ونحن نبارك هذا الإنجاز الكبير، نبارك لأنفسنا أن بيننا من يرى في الكلمة رسالة، وفي اللغة قضية، وفي الثقافة طريقاً للنهضة والخلود.
وفي ظل قيادته، ستبقى الشارقة، كما عهدناها، منارة للحضارة، وحصناً للهوية، وجسراً متيناً بين التراث والمعرفة.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







