د. باسمة يونس
منذ هوميروس ودون كيشوت وحتى مدام بوفاري وجين آير، كان ثمة بطل يتصدر المشهد في رحلة أو مواجهة عالم ظالم أو مضطرب، فينتصر أو يسقط لكنه يبقى في الذاكرة.
وظل البطل الروائي ركيزة أساسية إلى أن دخلت علينا تغييرات ثقافية كبرى في زمننا الحديث جعلتنا نتساءل عما إذا كان زمن البطل الروائي قد ولى ومضى، وإن صح ذلك، فمن البديل؟ وإن لم يصح فأين الدليل؟
لقد كانت صورة البطل في الرواية انعكاساً لفهمنا للذات والواقع، فهو بطل فوق العادة، فارس أو ملك أو مغامر مثالي يتفق المجتمع على ما يجسده مثل الشجاعة والكرامة والصدق والوفاء ونقطة التوازن والعدسة التي نرى من خلالها العالم.
وبمجيء القرن العشرين وبعد الحروب العالمية والتغيرات الكبرى التي حدثت تغيّرت الرواية والبطل الذي لم يعد المحارب أو الثائر أو العاشق، بل أصبح موظفاً يائساً، أو امرأة تتأرجح بين أدوار عديدة، وقد رأينا ذلك في أعمال كافكا وسارتر وبورخيس، حيث ظهر البطل الضعيف المجرد من البطولة ليواجه عبث الوجود بالشك والأسئلة.
وقد لا يصح القول إن زمن البطل قد انتهى تماماً، بل يمكن القول إن مفهوم البطولة قد تغير، فلم يعد البطل مركز السلطة في الرواية، وتوزعت البطولة بين عدة شخصيات، بل أصبح البطل أحياناً هو المكان، حيث تتحول القرية أو المدينة أو الصحراء إلى كائن سردي، له ذاكرته وتاريخه.
وهذا التبدل ظهر في روايات وصفت ب«ما بعد الحداثة»، حيث يغيب المركز وتتشظى السرديات، وتلغى فكرة البطل الواحد لصالح الحشود، أو الأصوات المتعددة، لأن البطل هنا لم يعد من «يغير العالم»، بل أصبح من يحاول فقط أن يفهمه أو ينجو منه.
وفي العالم العربي، تسللت الرواية خارج إطار البطل الكلاسيكي، فبعد عقود من تصوير البطل الوطني أو البطل التراجيدي، أصبحت الروايات تتحدث عن المهمشين واللاجئين والنساء المعنفات والمثقفين المقهورين، فلم تعد البطولة مرتبطة بشخص يواجه مصيره بشجاعة، بل بمن يملك القدرة على الكلام، أو حتى مجرد البقاء.
وبذلك، ظهرت أشكال جديدة من البطولة مثل البطولة الصامتة، وبطولة الشهود، وبطولة الصبر، وبطولة من لا يملك القدرة على المواجهة، لكنه يظل حياً، فكل هذه الشخصيات، برغم هامشيتها، أصبحت تعكس الواقع الإنساني بأمانة أكبر من الأبطال المثاليين.
وبالعودة إلى السؤال عما إذا كان زمن البطل قد انتهى لن تكون هناك إجابة حاسمة، لأن الرواية بطبيعتها، وكما هو جلي، تملك مرونة عجيبة تسمح لها بإعادة تعريف مفاهيمها باستمرار. وما يمكن قوله بثقة إن الرواية اليوم لم تعد تؤمن بالبطل المخلص، ولا بالبطل القدري، ولم تعد تسلّم مصيرها لشخص واحد يحرك الأحداث من موقع القوة، بل تمنح البطولة لمن يسأل ولمن يتأمل ولمن يُخفق ثم ينهض.
وما نشهده ليس زوال البطل بل انفتاح الرواية على أشكال متعددة من البطولة، فأحياناً قد يكون البديل هو الراوي الجماعي، أو الزمان أو حتى اللغة نفسها. وأحياناً قد تكتب الرواية دون بطل على الإطلاق، كمرآة مكسورة تعكس فوضى الإنسان الحديث.
إن زمن البطل الروائي الكلاسيكي قد يكون انقضى، لكنه لم يدفن بل تمرد على صوره القديمة، وولد من جديد في أشكال أكثر إنسانية وهشاشة، واليوم، لم يعد البطل ذلك الشخص الذي ينتصر، بل الذي يتحوّل ويقاوم بصمت ويكشف هشاشة الحياة بصدق، وهي في عالمنا اليوم بطولة من نوع آخر.
[email protected]