حقائق القوة وسيادة الدول

00:11 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد خليفة

سيادة الدولة تعني حق الدولة في ممارسة السلطة على كامل أراضيها، ولأي دولة الحق أن تمارس سيادتها على أراضيها من خلال قوانينها وسياستها والاستقلال السيادي، من دون تدخل خارجي.
في الآونة الأخيرة أخذ هذا الحق يتهاوى وينهار، وأخذت تهتز معه خريطة سيادة الدول والمواقع الجغرافية. وكان التاريخ قد انتهى بعد تدويل المشكلة والتحكم في حلها، وفقاً لما تقتضيه حقائق القوة التي ترتكز على تدمير الأمن الاجتماعي، والانتقال إلى الحالة البربرية، مع أنه لم يكن في الماضي أي وجود لمفهوم سيادة الدول، بل كانت الإمبراطوريات القديمة تحكم طائفة من الشعوب، ويتم تحديد حدود كل إمبراطورية مع الأخرى من خلال الحدود الجغرافية لا السياسية.
وكانت الصين، استثناء، قد بنت سوراً من جهة الشمال لتحمي نفسها من الهجمات التي كانت تتوالى عليها منذ مرحلة ما قبل الميلاد. ولم يظهر مفهوم السيادة بمعناه الحقيقي إلا في القرن السابع عشر بعد حرب الثلاثين سنة التي بدأت سنة 1618، وكانت شرارتها الصراع الكاثوليكي- البروتستانتي، فقد شنت الإمبراطورية الرومانية المقدسة حرباً واسعة ضد الممالك والإمارات البروتستانتية في ألمانيا، والأراضي الواطئة (هولندا)، بهدف محو البروتستانتية من الوجود، فنهضت فرنسا الكاثوليكية للقتال إلى جانب البروتستانت، لتمنع الإمبراطورية الرومانية بقيادة آل الهابسبرغ من تحقيق أي نصر، وهكذا تحولت الحرب إلى صراع سياسي وصراع على النفوذ، وقد أدت تلك الحرب إلى فناء مدن كاملة بألمانيا وغيرها، كما تسببت بموت نحو ثمانية ملايين أوروبي، وأدت أيضاً، إلى انتشار المجاعة على نطاق واسع في عموم أوروبا.
وعندما استهلكت القوى المتصارعة كل إمكاناتها مالت إلى الصلح، فكان صلح وستفاليا 1648 الذي حضرته الأطراف المتصارعة، ووقعت فيه على سلسلة من المعاهدات التي مهدت الطريق، في نهاية المطاف، لتشكيل الدولة القومية الحديثة، والتي يدل مفهومها على فكرة خضوع سكان إقليم معين لقوانين تلك الدولة، كما وُضعت حدود ثابتة لكل دولة. وامتد هذا النظام الوستفالي إلى أمريكا الجنوبية التي تم تقسيمها أولاً بين إسبانيا والبرتغال بشكل متساوٍ، ومن ثم تم تقسيم الدول ولا سيما الخاضعة لإسبانيا، فأصبح لكل دولة من تلك الدول حدودها الثابتة المعروفة. ومن ثم نقل الاستعمار الفرنسي والبريطاني فكرة الدول القومية إلى آسيا وإفريقيا، حيث رسمت الدولتان الحدود بين مستعمراتها، ومن وراء ذلك ظهرت الدول بأشكالها المختلفة وحدودها المعروفة.
واستمرت الحدود في التغير والتحول، بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأيضاً بسبب الحرب الباردة. ونتيجةً للتغير المستمر لحدود الدول، فقد تم رسم نحو 60% من حدود الدول الأوروبية خلال القرن العشرين. وتستند سيادة الدولة إلى السلطة الحصرية التي تمارسها على أراضيها ورعاياها. وفي القانون الدولي، تضع الدول نفسها القواعد التي يتعين عليها اتباعها. وينظم «مبدأ السيادة» العلاقات بين الدول. وقد كُرّس ذلك المبدأ في ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على أن المنظمة تقوم على «المساواة في السيادة» بين جميع الدول الأعضاء. وبالتالي، يجب على أي دولة احترام امتيازات الدول الأخرى في سياساتها المتعلقة بسكانها وأراضيها.
ويترتب على هذا المبدأ، أنه لا يجوز لأي دولة «التدخل في الشؤون التي تقع أساساً ضمن الاختصاص الداخلي لأي دولة أخرى». لكن يمكن للدولة أن تقوم، طواعية، بتقييد سيادتها،
ولا سيما عند التصديق على الاتفاقيات الدولية. وعندما تفعل ذلك، فإنها تُلزم نفسها بأحكام الاتفاقيات، وتوافق بذلك على تقييد أو تنحية سيادتها.
غير أن مفهوم سيادة الدول لم يستقر بشكل نهائي في العالم، فلا يزال بإمكان الدول الكبرى أن تخرق سيادة أي دولة صغيرة أو ضعيفة، فقد قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، وهي دولة ذات سيادة، وتسبب ذلك في موت الكثير من أهل العراق، وتدمير المدن. ورغم أن المسؤولين الأمريكيين قد برروا هذا الغزو، آنذاك، بادعائهم أن العراق يملك أسلحة دمار شامل، لكن هذا التبرير لا يمنح الولايات المتحدة الحق في الاعتداء على دولة أخرى مستقلة ذات سيادة معترف بها كدولة، وفق مبادئ القانون الدولي وكدولة عضو في هيئة الأمم المتحدة.
وقد كان ذلك الغزو مقدمة لسلسلة تغييرات في مفهوم السيادة طالت، ولا تزال، العديد من الدول العربية، التي دخل بعضها في نطاق الفوضى، بينما لا يزال بعضها يعاني، لإكمال عملية انتقال السلطة. وتستغل إسرائيل هذا الواقع وتقوم بشكل مستمر بانتهاك سيادة بعض الدول المجاورة لها، مثل لبنان وسوريا، بحجة الدفاع عن النفس..
وكما أن غزو العراق كان مقدمة لأحداث جسام في العالم العربي، فإن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا قد ألقت بظلال كثيفة على مفهوم السيادة في أوروبا، وأصبحت دول هذه القارة كلها مهددة بتغييرات كبيرة بعد أن تبين ضعف تلك الدول، وعجزها عن تقديم حلول تنجيها من القادم.
إن مفهوم السيادة، قديماً وحديثاً، في أي دولة مرتبط بقوتها العسكرية والاقتصادية، فبالأولى تفرض هيبتها وبالثانية تبني قوتها ومنعتها.

[email protected]

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"