د. ناصر زيدان
منذ أن حرق «نيرون» روما في عام 64 م، كان للحروب البشِعة بعض الدوافع الشخصية، ذلك أن الامبراطور الروماني الخشِن كانت له أهداف خاصة يعرفها كثيرون، ولا مجال للدخول في تفاصيلها الآن. وعلى الدوام كان للحروب شعارات وطنية أو أُممية، تُنشِد الدفاع عن أرض الوطن وعن الشعب ومصالحه. ومَن لا يتذكر خطابات الفوهرر النازي أودلف هتلر قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أبلت البشرية بمآسٍ لم تندمل جراحها حتى اليوم؟ ونكبات أهل فلسطين وآخرها مذبحة غزة المستمرة على يد قوات الاحتلال، شواهد إضافية على أضرار الحروب التي تُطلق برعونة غير محسوبة، وتنتهي بالموت والدمار.
الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران مشهدٌ آخر لمسرحية العنف البغيضة، بصرف النظر عن نتائجها غير المعروفة بعد. والمنطقة برمّتها تقع تحت وطأة ضربات صواريخها المُدمرة، من دون أن يكون لهذه المنطقة وشعوبها أيُّ ذنب. وبعض دوافع هذه الحرب اللعينة، مرتبطة بطموحات شخصية وميثولوجية واضحة وموجودة عند أفرقاء النزاع على اختلافهم، ولا يعني هذا إعفاء مُتطرفي الحكومة الإسرائيلية من المسؤولية الأولى عما يحدث، وقول رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ بأن «إسرائيل تدافع عن الشرق الأوسط وعن الإنسانية وعن السلام» لا يُقنِع أحداً، بل هو مثار سخرية وتهكُّم من المتابعين الذين يعرفون بعض خفايا الأحداث.
ما يجري حرب وحشية مُدمّرة، يدفع ثمنها الأبرياء، ويستغلها الرُعناء، وهي تُهدِّد الاستقرار في المنطقة، وربما في العالم، برمّته. والتفاوض على حلّ سلمي وفق منطوق ميثاق الأمم المتحدة، هو الطريقة الأنجع لتوفير أرضية مؤاتية لتحقيق استقرار دائم، بعيداً عن الطموحات الانفلاشية من جهة، ومن دون جنوح إجرامي مغلَّف بشعارات واهية من جهة أُخرى. وفائض القوة الذي يشعر به قادة إسرائيل، لا يُبرِّر على الإطلاق محاولات الهيمنة على مقدرات المنطقة برمّتها، أما صناعة الشرق الأوسط الجديد – كما يحلو لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو القول – فلا يمكن أن يحصل على يدِ المنغمسين في لعبة الموت والعدوان، ولا الذين يتجاوزون في أعمالهم كل قواعد القانون الدولي والأعراف الإنسانية.
ليس هناك تشخيص موحد لدوافع الحرب الحالية، ولا لأسبابها. ومن الواضح وجود اعتبارات غير مُعلنة لها، تتجاوز المُبررات المُعلنة، وأخطاء الأفرقاء بمناسبة المفاوضات التي سبقت الحرب، غير كافية لتبرير ما حصل، ذلك أن أطرافاً متعددة – لاسيما إسرائيل – اعترفوا بأن التخطيط لما يجري من الناحية العسكرية والاستخباراتية بدأ منذ سنوات، وهو ما يؤكد النوايا والخلفيات السياسية وربما الشخصية التي تقف وراء ما يجري. فهناك مَن يحلم بأن يكون «ملك بني إسرائيل» من جهة، وهناك مَن يؤمن بوجود حق تاريخي لبعض الأمم بأن يكون لها نفوذ يتجاوز حدودها التاريخية.
الأضرار السياسية للحرب، قد تكون أكثر من أضرارها الميدانية، برغم أهمية الخسائر البشرية والمادية التي تحصل. والرؤى التي تتخيلها بعض القوى المؤثرة للمستقبل، غير واقعية، ولا يمكن لمنطقة أساسية من العالم - بل يمكن أن تكون الأهم من بين المناطق الأخرى - أن تكون حبيسة في مدى حيوي لجهة واحدة، مهما عظُم شأن هذه الجهة. والمصالح الدولية والإقليمية والعربية لا تسمح بهيمنة أُحادية الجانب على وسط العالم. أما حقوق الشعوب التاريخية في السيادة على أرضها ومقدراتها، فهي ثوابت لا يمكن تجاهلها مهما طال الزمن، والاستباحة الرقمية والسيبرانية، كما تراجع أهمية الحدود الجغرافية، لا تسمح بتوليف سيناريوهات استبدادية. فالمنطقة العربية واحة مفتوحة أمام الأُمم، وقواها مُحبة للسلام والتعاون، ولا يمكن لها أن تكون حاجزاً يحجُب التعاون بين الشرق والغرب، وهذا الدور التواصلي الطبيعي غير مرتبط بوجود أي نظام مهما كانت أهميته.
سبق لحروب سابقة أن حملت شعارات كبيرة تتعلَّق بالحِرص على السلام والأمن العالميين، ولكنها بالواقع كانت تخفي أهدافاً مختلفة ليس لها علاقة بهذه الشعارات. والمراقبون يلاحظون أن شعار إيقاف برنامج ايران النووي، لا يكفِي لتبرير كل ما يحصل اليوم، وهناك طُرق مختلفة يمكنها الوصول إلى هذا الهدف سلمياً، أو بوسائل أخرى، وبغير الطريقة الحالية التي تجري فيها الحرب، ونيران هذه الحرب تطال مواقع مختلفة ليس لها أي علاقة بالبرنامج النووي ومنشآته، كما أن هذه الحرب تجري بعد أن مُنيت القوى المؤيدة لإيران بخسائر كبيرة في لبنان وسوريا وفلسطين، واندفاعة المحور تراجعت إلى الحدود الدُنيا.
يمكن للقوى الدولية التي بذلت جهوداً كبيرة للوصول إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني عام 2015، أن تُعيد مجهوداتها، وظروف الوصول إلى تفاهمات جديدة في هذا السياق مناسبة، بما في ذلك تطبيق اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتضمن نقل عمليات تخصيب اليورانيوم إلى الأراضي الروسية، وقيل إن ايران تجاوبت مع هذا الاقتراح، بينما رفضه الطرف الآخر.
الاستفراد بالهيمنة، وسياسة عدم احترام التوازنات، فيهما مغامرات غير محسوبة النتائج، بينما الحوار وإشراك الأطراف المعنية الأخرى – لاسيما الأمم المتحدة – هو الطريقة الفضلى لحل المشكلات.