اتفق قادة حلف الناتو على الترفيع في موازنة الحلف العسكري بنسبة خمسة في المئة، في الاجتماع الأخير الذي عقد في هولندا. وهذا الزيادة تعني تسريعاً في نسق التسلح والتصنيع العسكري فائق التكنولوجيا، في وقت تزداد فيه حدة الصراعات الدولية، وتظهر فيه المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة قدرة على حل النزاعات وفضها.
من المتعارف عليه أنّ الحرب تُصنع في العقول قبل أن تدور رحاها في الميدان، وتنهض وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي بهذه الوظيفة من خلال التطبيع مع مصطلح «الحرب العالمية الثالثة»، من خلال النشر وإعادة النشر الواسع لخطابات أو تصريحات تحذر من التوجّه نحو حرب كونية جديدة، من دون أن يدرك المروّجون لهذه التصريحات خطرها وتداعياتها القاتلة على المواطن العالمي عموماً. وللأسف الشديد، باتت مثل هذه المصطلحات رائجة وكأن الأمر يتعلق بمبارزة بسيطة، في حين أن ما يتم الحديث عنه وفي ظل سباق التسلح المحموم، وفي ظل استخدام أدوات حرب شديدة التطور، ليس إلّا الكارثة التي ستقضي على النوع البشري وتهدد منجزات الإنسان التي ظل يشيّدها عبر عقود من الزمن.
إنّ حديث الحلف الأطلسي عن زيادة الإنفاق العسكري لدول الحلف، يعني استعداداً جدّياً لحرب كبرى قادمة، وهذا أمر تثبته الأرقام والإحصائيات الدولية التي تشير إلى أنّه ومنذ زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لم يشهد العالم زيادة في الإنفاق العسكري مثلما شهده في السنوات القليلة الماضية.
فقد كشف معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، في شهر إبريل (نيسان) الماضي أن الإنفاق العسكري العالمي ارتفع 9.4٪ عام 2024 مسجلاً 2.7 تريليون دولار وهي أكبر زيادة منذ نهاية الحرب الباردة، بفعل الحروب والنزاعات الممتدة. فأوروبا، بما فيها روسيا، تصدرت القفزة بنمو 17٪، بينما ضاعفت موسكو إنفاقها إلى 149 ملياراً وخصصت أوكرانيا 34٪ من ناتجها المحلي للدفاع. وأما الولايات المتحدة فقد أنفقت 997 ملياراً، والصين 314 ملياراً، في حين قفزت ميزانية إسرائيل 65٪ وتراجعت إيران 10٪ تحت وطأة العقوبات.
واستناداً إلى هذه المعطيات وإلى الأحداث الأمنية الأخيرة على غرار المواجهة العسكرية بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، فإنّ أغلب دول العالم سيفرض عليها إعادة ترتيب موازناتها من أجل مواكبة هذا التوجّه الإنفاقي والانخراط حتى لا طوعياً في سباق تسلح. وبمعنى آخر فإن كثيراً من الدول والقوى الإقليمية والدولية ستكون مجبرة على بناء موازناتها على قاعدة «اقتصاد الحرب» بدل بنائها على قاعدة اقتصاد السلم.
وهكذا، فإنّ جهود التنمية وجهود مكافحة الأمراض والأوبئة وتعزيز فرص التعليم والتنمية البشرية، وكذلك تعزيز حملات منع الهجرة غير الشرعية، ستكون برامج متأثرة بهذا التوجه العالمي، حيث ستتقلص فرص الاستثمار فيها وستتراجع برامج الدعم الدولي لها، ولنضرب مثلاً قرار الولايات المتحدة إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي كانت لها برامج مساعدة لكثير من شعوب العالم. وقد أكد المدير المعاون لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هاوليانغ شو، أن خفض المساعدات الخارجية في ظل تصاعد الإنفاق العسكري، يهدد فرص تحقيق السلام العالمي، مشدداً على أن «الاستثمار في التنمية والدفاع والتجارة ليس معادلة خاسرة لأي طرف»، ودعا الدول الغنية إلى العودة لدعم الدول النامية رغم الأزمات الطارئة، معتبراً أن التعاون الإنمائي الدولي «ضروري لبناء أسس السلام»، لا سيما أن معظم الفقراء حول العالم يعيشون في مناطق نزاع. ويتوقع البنك الدولي أن يصل عدد من يعيشون في فقر مدقع، أي بأقل من 3 دولارات يومياً، في دول تشهد نزاعات أو عدم استقرار إلى 435 مليون شخص بحلول 2030. من جانبها حذَّرت ريبيكا غرينسبان، الأمينة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، من أن المنظمة تواجه تخفيضات «مؤلمة» في إطار إصلاحات واسعة النطاق، مدفوعة بتراجع تمويل المانحين العالميين، ما يُهدد قدرتها على دعم الدول النامية في الوصول إلى الاقتصاد العالمي. وتستعد الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهي الذراع التنفيذية للمنظمة، لتقليص ميزانيتها البالغة 3.7 مليار دولار بنسبة تصل إلى 20 في المئة. وقد طُلب من نحو 75 وكالة وإدارة تقديم مقترحات لخفض الإنفاق.
وهكذا فإنّ السير في طريق التسلح والتخلي عن لغة الحوار والتفاهم لفض النزاعات الدولية، سيكون عملاً قاضيا على أحلام مئات الملايين من البشر الذين يرغبون في حياة آمنة ومزدهرة ومستقرّة.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







