حياة بالمراسلة

00:59 صباحا
قراءة دقيقتين

يخيل لي أن هذا العنوان سيذكّرنا بحكايات أولئك الذين جمعت بينهم علاقة صداقة أو حب، لكنها ليست مباشرة، أي أن الواحد منهم، رجلاً كان أو امرأة، لم يكن يحيا مع صديقه أو شريكه العاطفي في المكان نفسه. يتقابلان كل يوم أو يعيشان معاً، وإنما كان كل واحد منهما يعيش في مكان تفصله عن مكان الآخر مسافات طويلة، لأن الظروف حالت دون أن يكونا معاً.
ليس الأصدقاء والمحبون وحدهم من يصحّ عليه ذلك. حتى في زمننا العربي الراهن نرى العائلة الواحدة وقد تفرّق أفرادها بين أكثر من بلد، وفصلت بينهم المسافات الشاسعة، فصاروا يتبادلون التحية والمشاعر عبر ما يندرج في خانة «المراسلة».
هل من عائلة فلسطينية، مثلاً، لا تعاني هذا «الشتات» بين أفرادها، كأن يكون أحدهم أو بعضهم في الضفة أو غزة، وآخرون في الأردن أو الخليج، وآخرون في أوروبا أو أمريكا أو كندا أو استراليا؟ لم يعد الفلسطينيون، من بين العرب، وحدهم في هذا الشتات، فالأمر يصحّ على الكثير من العراقيين والسوريين واللبنانيين وغيرهم، لأن المحن العربية تتناسل، وضحاياها يتضاعفون.
العنوان الذي يتصدّر هذه السطور اختاره الباحث اللبناني شربل داغر، ليجمع تحته مراسلات تمت بين الشاعر التشيكي راينر ماريا ريلكه مؤلف الكتاب الشهير «رسائل إلى شاعر شاب»، والشاعرة الروسية مارينا تزفيتاييفا اللذين عاشا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، لتكون جزءاً من الكتاب الذي أصدره بعنوان «الوصيّة»، وهو العنوان الذي اختاره ريلكه نفسه لكتابه الذي هو عبارة عن مجموعة من المقطوعات الأدبية يمكن وضعها، بتعبير داغر، «في باب النثر الشعري».
في مراسلات راينر ريلكه ومارينا تزفيتاييفا يمكن أن نجد روحاً كتلك التي سادت مراسلات مي زيادة مع جبران خليل جبران، لكن مع فروقات قد يصحّ أن نردها إلى اختلاف الثقافات، وربما اللغات أيضاً.
حول اختلاف اللغات بالذات، تقول مارينا في إحدى رسائلها التي حواها الكتاب، مخاطبة ريلكه: «الألمانية أكثر عمقاً من الفرنسية، أكثر امتلاء واتساعاً وجهامة. الفرنسية ساعة من دون رجع، الألمانية رجع من دون ساعة، أي من دون ضرباتها. الألمانية ينقلها القارئ من جديد إلى اللانهائي، الفرنسية موجودة، هنا. الألمانية وعد نهائي والفرنسية وعد جازم».
لكن رسائل مارينا وريلكه ليست فقط نقاشاً في الشعر والأدب، وهو نقاش على درجة من الثراء والعمق، وإنما هي أيضاً رسائل بوح عن مشاعر فياضة جمعتهما، تبدو مارينا جريئة في الإفصاح عنها، ولكن جرأة ريلكه لا تقلّ عنها.

[email protected]
 

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"